يقول الله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه) – سورة البقرة، الآية:184.
أشارت الآية الكريمة إلى شيئين لهما أهميتهما في حياة المؤمنين، وهما: أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان، فتلك ذكرى ابتداء الوحي بالقرآن إلى رسولنا صلي الله عليه وسلم، وأن على المسلم الذي يشهد رؤية الشهر المبارك صيامه لله سبحانه، تعبدا وشكرا على نعمة القرآن.
وذكرى نزول الوحي تستحق وقفة نتدبر فيها شأنه، وتدرجه، وما أحيط به من ضمانات لبقائه نقيا له قداسته وتقديره وفعاليته واستمراريته.. ومراجعة جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم في كل عام لجمع القرآن وتثبيته، حتى قوي إيمان المؤمنين بربهم، وَصَفَت أرواحهم.
وتشير الآية الكريمة إلى أن القرآن الكريم هدى للناس، فهو الذي يزكي النفوس، ويثبت الإيمان، ويصفي الروح، ويحد من طغيان المادية والجسد…
ويتأتى ذلك بتدبر القرآن وتلاوته، مع قبول الهداية العملية والتدريب عليها، فتكون الموازنة بين مطالب الجسد وأشواق الروح.
وكانت فريضة الصوم في شهر رمضان، بدون تخيير في حرية اختيار أي شهر، حتى تتحد كلمة المسلمين ومشاعرهم وأحاسيسهم من ناحية، وليغلق الإسلام باب الأعذار والتعللات، حين يختار بعضهم ما يروقه من الأشهر، أو يكون النسيء فتضطرب القلوب، وتتفرق الكلمة، ويحل الشتات محل الثبات والصفاء والاتحاد في المشاعر والقلوب: فالإجماع على شيء واحد في زمان واحد… أدعى إلى القبول، ووحدة الهدف، وقبول الهداية، وتسهيل الامتثال للأمر، والتشجيع على إنفاذه.
وكان الصيام يوما كاملا – من طلوع الفجر إلى غروب الشمس – في شهر كامل، لجدية التمرين والانقياد بالإمساك عن الطعام والشراب، وللوسطية التي يراعيها الإسلام بين مطالب الجسد وأشواق الروح، بموازنة سوية لا إفراط فيها ولا تفريط.
وفي اتفاق جماعة المسلمين على شيء كالصوم.. يجلب ما يناسبه من رحمة الله وإحسانه، وجوده وبره بعباده الممتثلين لأمره، والواقفين عند حدوده، والمسارعين إلى مرضاته، والبعيدين عن سخطه… حينئذ تسطع أضواء الإيمان في قلوبهم، وتعمهم الرحمة، وتنزل بهم البركة. ولا يؤثر فيهم الشيطان، ولا تهبط بهم الغرائز والحيوانية، وإنما يرتقون في المستوى الإنساني الفاضل… ولذا جاء في الحديث الشريف: “إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة – وفي رواية الرحمة – وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين”.
ورمضان شهر الإخلاص، لأن الصائم يخلص فيه الصوم لربه سبحانه وحده، وليس له من رقيب على نفسه سوى الله تعالى، فقد يتراءى الخلل بالمراءات في أساسيات الإسلام الأخرى، بسبب النفس الأمارة بالسوء… فيحبط الرياء صالح العمل، أو يقلل من قيمته وفعاليته؛ ولذا أشار الحديث الشريف إلى الصوم ومزيته من بين العبادات – التي هي كلها لله – “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به”، مزية الإخلاص، ومزيد جزاء. وجاء في حديث أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به، قال: “عليك بالصوم، فإنه لا مثيل له”؛ أي لا نظير له في عظيم الأجر، وصفاء النفس، والقرب من الله، وصحة الجسم، وكسر طغيان شهوة النفس، فيسيطر الإنسان على نفسه والأحداث التي تنزل به، والصعاب التي يلاقيها في الحياة، والإسلام يحب ذلك الإنسان القوي، ولا يرحب بالإنسان المتردد بين الضعف والقوة، والذليل لشهوته ووهمه، والقلق في الحياة بسبب ضعفه وقلقه في دنياه، وإيثاره الفانية على الدار الباقية.
وحين تذكر الآية الكريمة أن نزول القرآن في شهر رمضان كان (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، يتضح أن قلوب المؤمنين بأداء هذا الصوم تنطوي على الإيمان بالله وحده، وبكتابه الذي أوحاه إلى رسول صلى الله عليه وسلم، وبهداية هذا الكتاب تتضح معالم الحق، فضلا عن الاتحاد في المشاعر والأحاسيس، ومن ثم تلتقي القلوب على هدف واحد وكلمة سواء. كذلك يخف عن المحتاجين ما يلاقونه من حرمان في الحياة، حين يواسيهم الغني بإيصال حقهم إليهم، شكرا لله تعالى، ويقبل صاحب الجاه بجاهه على من لا جاه به تيسيرا لأمره، وتسهيلا لشأنه. وبمعرفة الحقوق والواجبات يكون التعاطف والتواد، وتحلو وتهون مشقات الحياة والأحياء. وهنا يرضي الإنسان ربه بامتثاله لأمره، ويرضي نفسه بتزكيتها ونجاحه في تخطي الصعاب، مع الاحتفاظ بمعنوياته وإنسانيته. وتتعاطف نفسه مع أفراد أمته وجماعته فتقوى وتتماسك، بقوة العزيمة حين ينميها بالإمساك عما تشتهي نفسه بصيام رمضان، فيصبح سيد نفسه، وتسود أمته، وترتفع عند الشدائد والأزمات، وتكون خير أمة أخرجت للناس.
وللمشقة التي يلاقيها الصائم، حين يكافح الهوى والشهوة والمألوف في سبيل نصرة إيمان النفس بالله تعالى، وإيقاظ ضميره، فاستجاب لدعوة الله، وانتصر في جهاده.. لهذه المشقة كان جزاء الصائم أضعافا مضاعفة، لأنه جهاد من نفسه الخيرة ضد نفسه الأمارة بالسوء. ويروي أبو هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي المروي عن ربه: “كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي”، جزاء وفاقا لما قام به من صيام عن معتاده ومألوفه وشهوته، في سبيل تزكية نفسه، وابتغاء وجه خالقه، ونصره لإيمانه، وتضامنه مع إخوانه المؤمنين.
والإنسان الصائم قاصد لكمال نفسه ورقيها الإنساني… وبالتالي فعليه قهر نفسه لإزالة رذائلها، حتى يكون لعمله صورة تقديسية في دنيا المثال، ويكون صومه لله المعطي، الذي يجازي عليه بنفسه. ومن هنا جاء قول الرسول الأكرم: “الصيام جنة”، أي وقاية: لأنه يقي النفس شرها، ووسوسة الشيطان، ويباعد الإنسان من تأثيرهما، فالواجب يربط معنى الوقاية بتنزيه اللسان عن الأقوال والأفعال التي لا تليق بالإنسان المؤمن، والتي تمثلت في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”، رواه أبو هريرة.
فالصائم هو الذي أمسك فمه عن الأكل والشرب ولغو القول والحديث، وأمسك لسانه عن الوشاية والشائعات والأراجيف والغيبة والنميمة، وأمسك يده عن الكسب الحرام، وعن الإيذاء والعبث، وأمسك قدميه عن السعي في الشر والإفساد، وحفظ قلبه عن الحقد والحسد وسوء النية والطوية.
والذي يمسك عن مجازاة الشر بمثله، ومجازاة السفه بلفظه، فيغير من وضعه عند غضبه والاعتداء عليه، وليقل: إني صائم حين يسفه عليه السفيه؛ اعتصاما بالصوم، ونأيا عن خطاب المسيء… وبذلك يكون معنى الصوم – كما جاء في اللغة – هو الإمساك… قولا وفعلا، وعملا ولفظا ومعنى.. لأن الصوم سر وعمل باطن يحب ألا يراه الخلق ولا يدخله الرياء… وتضييق لمسالك الشيطان والشهوات.
وبهذا نعلم أن:
صوم العمـوم هو: الكف عن شهوتي البطن والفرج.
وصوم الخصوص: هو كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، وسائر الجوارح عن الآثام.
وصوم خصوص الخصوص: هو صوم القلب عن كل همة دنية، وأفكار تبعد عن الله تعالى. والناس هم درجات في هذا الجانب.
وعلى الجملة: فللصوم خصيصة ليست لغيره، وكفاه شرفا أن الله سبحانه أضافه لنفسه حينما قال في حديثه القدسي: “الصوم لي وأنا أجزي به”، كما شرف سبحانه البيت العتيق بالإضافة إليه حينما قال تعالى:( وطهر بيتي)، سورة الحج، الآية:24.
والصوم عزيمة، يجب أن يتناولها المسلم بعزيمة وقوة، وألا يترخص في تعلل النفس – الأمارة بالسوء – عن صيام رمضان، فمنهم من يتوهم أن الصوم مضعف للجسم، وبالتالي فهو معطل أو مقلل للعمل والإنتاج… ومنهم من يتعلل بأن الصوم يحد من حرية الإنسان فيما يفعل ويتصرف، أو أنه تقليد مضى زمنه، ولم يعد يصلح الحياة الحديثة… ومنهم من يتوهم أن المرض قريب منه إذا صام… الخ وكلها تعللات كاذبة لنفس خائرة، وعزيمة واهية…
وغاب عن المتعللين أن الصوم تدريب وتهذيب، وتقوية للإرادة، واستعلاء بها على مظاهر الركود والضعف والخور، وانتصار للإنسان على نفسه وعادته، وتدريب على الصبر على الشدائد والمكاره، وإذكاء لإعلاء المشاعر الطيبة بين الفرد والجماعة، ويكون سيدا على نفسه وشهواته، وتعلم الصبر وخلق الأمل، والإحسان بالقول والفعل، ولإتقان العمل والإخلاص فيه؛ فيثابر في سعيه في سبيل عيشه، ولا ييأس حين يخيب مسعاه أو يخفق في أمله، ولا رقيب على ذاته إلا من ذاته وداخله.
وفي إيجاز: الصوم عبادة تصلح الروح والبدن، وعبادة تعد الإنسان لحياة الخير، لخير الإنسانية وخيره.
والصوم لما له من آثار صحية على البدن، وآثار نفسيه على الإيمان والاتصال بالله تعالى وطاعته، وآثار على السلوك السوي المهذب الإنساني… كان الصوم عبادة قديمة، وفريضة على الأمم السابقة عنا، كما هي فريضة إسلامية. يقول الله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات) سورة البقرة، الآية:182.
ومعنى هذا أن بين الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وشائج قربى سماوية، وأن اللاحق منهم يتمم رسالة السابق، وكلهم في سبيل الله وخير الإنسانية.
ومعنى هذا أيضا أن رسالات الله سبحانه إلى خلقه سلسلة من حلقات يُتم بعضها بعضا، ويقوي بعضها بعضا، قوامها: الشهادة بأن الله واحد لا شريك له، وأنه وحده المستحق للعبادة والطاعة والامتثال. وأن فعل الخير واجب، وأن البعد عن الشرور والآثام مفروض، وأن الإيمان باليوم الآخر والعمل له واجب كل مؤمن… هذا في أساسيات الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعا، كما نلمح في آخر سورة البقرة: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله)، سورة البقرة، الآية:284، وتلك عقيدة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه.
هنيئا للصائمين صومهم، وتقبل الله منا ومنهم الصيام والصلاة والقيام وسائر الأعمال الصالحة.
والله يقول الحق ويهدي السبيل.