بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن الموضوع الذي أتشرف بعرضه أمام حضراتكم في هذه الندوة العلمية الدولية هو: “إسهام التصوف في حفظ الثوابت الدينية وتعزيز الرأسمال اللامادي للأمة المغربية”.
فأقول وبالله التوفيق:
إن من أعظم المقاصد التي حث الشرع الحكيم على تحقيقها هو وحدة الأمة وعدم تفرقتها لقوله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ (سورة آل عمران، الآية: 103)، كما أكدت السنة المشرفة على هذه الوحدة، وعلى كون الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[1].
تنزيلا لهذا الأصل العظيم حرص المغاربة عبر التاريخ على التشبث بثوابتهم الدينية، وعلى الانخراط في كل ما يجمع شمل الأمة، وقد كان من وراء هذه الاختيارات في التدين علماء عرفوا برسوخهم في العلم والمعرفة الشرعية، وبحرصهم الشديد على التزام الكتاب والسنة؛ وتتمثل هذه الاختيارات في توحيد الأمة على المذهب المالكي في تفاصيل العبادات والمعاملات، وتمسكها بالعقيدة الأشعرية، التي توارثها المغاربة منذ القرن الرابع الهجري، لما تمثله من الوسطية والاعتدال، ونهجها لمسلك التصوف، وهو الخادم لأحد مقاصد الشريعة الكبرى التي بعث بها النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهي مكارم الأخلاق التي قال فيها: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”؛ أما الثابت الرابع فهو إمارة المؤمنين الضامنة لثوابت الأمة، والجامعة لكلمتها على منهج واحد يضمن الوحدة والاستقرار.
أيها السادة الأفاضل: اشتهر المغرب بهذه الخصائص التي صار يذكر بها وتذكر به، ويعرف في العالم من خلالها، وهي من النعم الكبرى والمنن العظمى، التي عصمت بلدنا من الصراعات المذهبية والطائفية، وحققت وحدته وأمنه واستقراره.
ولذلك كانت هذه الثوابت حصنا منيعا وملاذا آمنا ضد خطاب التطرف، وكانت – ولا زالت- ضامنا لتحقيق الأمن والاطمئنان والاستقرار، والسلم والسلام والوحدة والوئام، وهذه الوحدة المذهبية لطالما نبه عليها علماؤنا ونصوا عليها في تآليفهم ورسائلهم؛ من ذلك ما ذكره سيدي عبد الوحد بن عاشر (ت 1040هـ) في منظومته “المرشد المعين”:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
وبين علماؤنا أن هذه الثوابت بما تحمله من قيم الوسطية والاعتدال، ومبادئ التعايش والتفاعل الحضاري كفيلة بأن تحصن الأجيال الصاعدة من كل فكر ظلامي وعدمي؛ يبعثها على بعض السلوكيات والتصرفات الشاذة والمتطرفة.
ويعتبر التصوف مكونا أصيلا، وثابتا عميقا من ثوابت الهوية الدينية المغربية التي أضحى المغرب بفضلها أنموذجا متميزا في تنمية وإشاعة القيم الإيجابية في المجتمع، والتي من شأنها أن ترسخ أبعادا جمالية وحضارية راقية تشمل الكون الإنساني في كل تجلياته؛ وجدانا وسلوكا، وذلك بالرحمة والرفق والسماحة دون عنف ولا إقصاء.
والتصوف كما بين أئمته هو تربية روحية ارتقائية لغرس الفضائل وبث القيم النبيلة وترسيخها وإشاعتها بين الناس، فهو منهج إصلاحي من داخل الفرد وأعماقه، مصداقا لقوله عز وجل: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (سورة الرعد، الآية:11).
وقد نبه علماؤنا رحمهم الله إلى هذا اللباب فأمتعوا الألباب، يقول الإمام الشاطبي في “الاعتصام”: “وحاصل ما يرجع إليه لفظ التصوف عندهم معنيان، أحدهما: التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني، والآخر: أنه الفناء عن نفسه والبقاء بربه، وهما في التحقيق يؤلان إلى معنى واحد”[2]، إلى أن يقول رحمه الله بأن: “أهل التصوف في طريقهم كسائر أهل العلوم في علومهم”[3].
وفي نفس السياق يقول ابن القيم في “مدارج السالكين”[4]: “اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق”، كما عرفه الفقيه المغربي الشيخ أحمد زروق: بأنه “علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه، والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام، والأصول(علم التوحيد) لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان؛ كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك”، وقال أيضا: “وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، ومرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه”[5].
وهذا مغربي آخر، وهو الشيخ بن عجيبة فقد عرف التصوف في كتابه “معراج التشوف إلى حقائق التصوف”[6]، بأنه: “علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة”. أما إمام الطائفة أبو القاسم الجنيد (ت297هـ) الذي على مشربه السلوكي ينهل صوفية المغرب، فقد عرف التصوف بأنه: “استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني”.
فالتصوف من منظور أئمته: اتصاف بأرقى الأخلاق وأعلاها، وتجرد عن سفاسفها وأدناها، حتى يفنى العبد عن أخلاق نفسه، ويبقى بأخلاق ربه، وهذا ما عبر عنه الإمام الجنيد (رحمه الله) بقوله: “التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به”.
فقول العلماء في هذا الثابت، أنه يمثل مقام الإحسان أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام الإيمان والإحسان)؛ فمثلما اهتم الفقه بتعاليم الإسلام، واهتم علم العقيدة بحقائق الإيمان، فإن التصوف تخصص بتحقيق مقام الإحسان، وهو (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[7]، وهذا المنهج يستمد أصوله وفروعه من الكتاب والسنة كما يقول الإمام الجنيد: “علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”، ويقول كذلك: ” الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام”[8].
ونقل الإمام الشاطبي في “الاعتصام” عن القشيري قوله: “أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة، إذ لا فضيلة فوقها، ثم سمي من يليهم التابعين، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعباد، قال: ثم ظهرت البدع، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله، الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف، فعلق الإمام الشاطبي على هذا الكلام بقوله: “فقد عدّ هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال، ومن لا عبرة به من المدعين للعلم”[9].
حضرات السيدات والسادة: ما أحوجنا إلى تربية صوفية صافية تفتح باب الأمل في عفو الله ورحمته، تفترض الخير في عباد الله، وتقدم حسن الظن بهم، دعوة إلى تطهير القلوب حتى تطمئن في رحاب حضرة علام الغيوب، فيعم الاستقرار والسلم والسلام والأمن والأمان، وهذه لعمري هي مقومات الأمن الروحي الذي به يتحقق الأمن الحضاري، والتعايش الإنساني بعيدا عن الفرقة والتشدد والتطرف والغلو، وبهذا يتحقق حفظ الثوابت الدينية، وتعزيز الرأسمال اللامادي للمملكة المغربية الشريفة.
إن هذا المسلك العظيم، والنهج القويم، هو مسلك الصوفية الحقيقيين عبر العصور، هو النهج الذي أخذوا به، ودعوا إليه، ونشروه بين المجتمعات، فأيقظوا القلوب، وهذبوا النفوس، وأخرجوها من ظلمات الغفلة إلى أنوار اليقظة والمعرفة بالله.
ومما لا شك فيه أن لمدارس هذا العلم العظيم والثابت المكين في المملكة المغربية آثار إيجابية في تكوين الأجيال على قيم المحبة والتسامح وقبول الآخر والعيش المشترك؛ إذ المحبة هي غاية التربية الروحية، التي تمتد في سلوكه وطبيعته وعطاءاته، ومن كان كذلك كان أثره فعالا وإيجابيا في خدمة مجتمعه وتنمية وطنه في سائر المجالات بما فيها المجال الاجتماعي والتربوي والعلمي والثقافي والاقتصادي والسياسي إلخ، لأن المحبة لا تكمن في الوجدان الروحي فحسب، ولا تلزم حدا معينا، بل تفيض مواجيدها في السلوك العام للإنسان، وهذا سر القوة في التربية الصوفية التي تسعى لإصلاح الخلق؛ لأن مجتمعا يكون غالبية أفراده على هذه الشاكلة، لن يصدر منه ما يمزق وحدته ولا ما يضعف تماسكه.
أيها السادة الأفاضل: إن التجربة الصوفية بما لها من قوة التأثير الروحي، تستطيع أن تساهم في المشروع الإصلاحي والتنموي للأمة، وإنما شرط ذلك أن تكون ممارسة على النحو المقبول، الذي لا زيغ فيه عن منهج الكتاب والسنة، ولا انزواء فيه عن المجتمع وقضاياه.
قال الإمام الشاطبي في الاعتصام: “وهو فقه صحيح، وأصوله في الكتاب والسنة ظاهرة، فلا يقال في مثله: بدعة، إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يُلف مثلها في السلف الصالح: أنها بدعة”[10].
وقال بأن الصوفية: “لا نجد منهم من ينسب إلى فرقة من الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السنة”[11].
ولعل أكبر جانب إيجابي يساهم في عملية الإصلاح هو الجانب الأخلاقي والتربوي، أو ما يمكن أن يسمى اليوم بإصلاح الفساد الاجتماعي، وهو أمر خطير تشكو منه مجتمعاتنا المعاصرة، ولا أحد من الناس يشك في أن الإصلاح الأخلاقي هو دعامة الإصلاح الاجتماعي.
فعلى هذا المقتضى، عمل السادة الصوفية والعلماء الربانيون على تربية النفوس باستئصال أدرانها وخبثها وأنانيتها وكل المساوئ المتصفة بها، والتي تحول دون التدبير المنصف للحقوق، لأن صاحب النفس الأمارة بالسوء يخل بالتوازن الخلقي والاجتماعي، فالتربية الصوفية هي تربية روحية إيمانية ارتقائية لغرس الفضائل وبث القيم وترسيخها في الجنان وتحويلها إلى سلوك ومعاملات حسنة؛ إذ التصوف في حقيقته، أخلاق، يتنافس الأفراد في تحصيلها، والمجتمعات في بلوغها، لذلك أسهمت المدارس الصوفية في إنتاج نماذج رائعة، بلغت الغاية في رعاية حقوق الله وحقوق العباد.
ولقد وُفقت المدرسة الصوفية المغربية في تحقيق الاندماج الفعلي مع قضايا المجتمع، بالإضافة إلى دورها الأساسي في ترسيخ القيم الروحية والتنمية البشرية، وهذا ما بينه بتفصيل معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية فضيلة الأستاذ السيد أحمد التوفيق في درسه الحسني الذي ألقاه سنة 2002م بحضرة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، بعنوان: “النسب الشريف والسند الصوفي في تاريخ المغرب”، ذكر فيه أن صوفية المغرب كان لهم انشغال إيجابي بتأطير المجتمع، حيث غلب عليهم الاشتغال الاجتماعي والعمراني؛ تجلى في أدوار نافعة شتى: دينية وعلمية وتعليمية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ليخلص فضيلته إلى أن الحاجة ماسة إلى الالتفات لوظيفة التصوف الخُلقية، هذا الخُلق الذي تحتاج إليه الإدارة وتحتاج إليه السياسة والتجارة…، وما أجدرنا أن ندخل في برامج مدارسنا هذا التوجه؛ كمذهب أبي العباس السبتي دفين مراكش(ت524هـ)، الذي أدار مذهبه على التضامن والتكافل؛ يأخذ من هذا ليعطي هذا، حتى قال عنه ابن رشد: “هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود”، وحول هذه الشخصية الصوفية الفذة ألقى فضيلة الأستاذ أحمد التوفيق درسا حسنيا سنة 2015م، تناول فيه بالدرس والتحليل موضوع: “أبي العباس السبتي ومذهبه في التضامن والتوحيد”، وذلك بقصد تعرُف المغاربة على منابع القيم المُثلى لثقافتهم؛ تثبيتا لمسارهم الحاضر، واستشرافا لمستقبل يستمد مرجعيته من قيم ماضيهم المجيد.
حضرات السيدات والسادة: إن المنهج التربوي لأهل التصوف لا يقوم أبدا على الإقصاء بقدر ما ينبني على التكامل والانسجام مع كل المكونات الحضارية والإنسانية، وذلك من باب احترام إرادة الله في الخلق والتأدب مع حكمته؛ إذ لو شاء الله تعالى لجعل الناس أمة واحدة، وبذلك فقد قدم صوفية المغرب صورة مشرقة عن روح الإسلام وسماحته وكونيته وشموليته؛ فالصوفي الحق عندهم كله رحمة، يسعى للخير وإسعاد الناس، وتقديم العون لهم، فهو نافع لنفسه ولوطنه، وهو طائع لولي أمره، محب للخير والسلم والسلام، بعيد كل البعد عن التطرف والغلو في القول والعمل، إنه قريب من الناس يحبهم ويحبونه.
إن تنمية الرأسمال المادي واللامادي لابد أن تنطلق من الإنسان، وأن تراعي حاجاته على كل المستويات؛ نفسيا وروحيا وفكريا واجتماعيا، فقبل أن نهتم بتنمية المحيط والعمران ينبغي أولا أن نهتم بتنمية الإنسان، وهي الفكرة الجوهرية التي حملها ديننا الحنيف، حيث جعل من الإنسان مركز الدائرة التي يدور في فلكها كل مشروع إنمائي؛ فلا يخفى الدور الكبير الذي اضطلع به شيوخ التربية الصوفية في بناء الفرد والمجتمع، لما حمله منهجهم التربوي من مقومات تزكوية يتخلص بموجبها الإنسان من رعوناته وأوصافه النفسية السلبية التي تنزع به نحو الشر والإفساد، وتنمي فيه جوانب الخير وتحليه بالقيم الإيجابية، التي تدفعه ليكون فاعلا في محيطه ساعيا إلى تحصيل الخير والصلاح له ولمجتمعه، فأساس كل مشروع تنموي ناجح هو الإنسان الصالح الذي يحمل في قلبه قيم الصدق والإخلاص والمحبة، وهذا لا يكون إلا بصلاح القلب وتطهيره وتنقيته من سائر الأدران والأوصاف القبيحة.
وكان المغرب – ولا يزال في ظل ما عرفه من تميز في اختياراته وثوابته الدينية – نموذجا رائدا في بث روح التسامح والتعايش وترسيخ قيم الحوار والتعارف، مثلما هو الحال فيما خلفوه من آثار داعمة للصلات القارية وتقوية المشترك الإفريقي، خاصة مع ما يعرفه التدين المغربي اليوم من حضور فاعل داخل هذه القارة، في ظل ما يحظى به من رعاية فعلية لأمير المؤمنين محمد السادس نصره الله الذي ما فتئ يدعو إلى جمع الشمل وتوحيد الصفوف عبر ما يفتحه من أوراش تنموية؛ إنسانيا وعمرانيا وحضاريا.
ولا يخفى التميز الذي عرفه المغرب في هذا الباب، من خلال ما شهده من وفرة لأعلام التصوف ومدارسه، كيف لا وهو أرض الولاية والصلاح، حتى قيل عنه المقولة الشهيرة “ينبت الصالحون بالمغرب كما تنبت الأرض الكلأ”، وقيل: “إذا كان المشرق بلاد الأنبياء، فالمغرب بلاد الأولياء”. ومن يتتبع آثار هؤلاء الأعلام، يرى مدى إسهامهم وانخراطهم الفاعل في الحياة الاجتماعية، حيث أسهموا في بناء المساجد، وحفر الآبار، وتشييد المدارس، وكفالة الأيتام، وإعانة المحتاجين، وغير ذلك من الأبعاد التنموية. هذا بالإضافة إلى ما خلدوه من آثار إعمارية في سائر الربوع التي مروا منها، واستوطنوها، سواء أثناء رحلتهم إلى الحج، كما هو الأمر بالنسبة للديار المصرية التي استقر بها عدد من الصوفية المغاربة، مع ما غرسوه في نفوس الناس من قيم روحية كان لها الأثر الكبير على التنمية العمرانية بشكل عام، وكذا الأمر بالنسبة لما اضطلعوا به في القارة الإفريقية التي كان لهم الفضل الكبير في دخول الإسلام إلى ربوعها، وما رافق ذلك من مشاريع إعمارية وإنمائية رائدة.
أيها السادة الأفاضل: إن المملكة المغربية هي بلد الإشعاع الصوفي بامتياز، لأن البعد الروحي الأخلاقي والسلوكي هو مكون ثابت ضمن مكونات هويته الدينية والوطنية، فلا غرو أن تستدعي الضرورة عقد مثل هذه اللقاءات العلمية من أجل العمل على إبراز هذا الإشعاع، وترسيخ هذه الثوابت والاستفادة منها؛ لأن المطلع على تاريخ المغرب يقف بلا شك على الحضور القوي والعميق للتصوف في كل مناحي حياة المغاربة، وذلك من خلال الأدوار والمهام الجسيمة والمشهودة لرجالاته المخلصين، وزواياه ومدارسه المنتشرة في كل ربوعه، والشاهدة على الآثار التاريخية الملموسة، وذلك بسبب تجذر التصوف في النسيج القبلي والحضري وعند الأوساط الشعبية فقيرها وغنيها وأيضا في أوساط العلماء، حيث أصبح السند العلمي مقترنا بالسند الصوفي عند جل العلماء الذين طفحت بهم صفحات كتب التراجم.
والناظر في صفحات تاريخ المدارس الصوفية المغربية يلمس حرص رجالات الولاية والصلاح على إدماج المنظومة القيمية الإنسانية في التنمية المجتمعية، وذلك عبر حضورها القوي سواء على مستوى تنظيم الحرف بالمدن، أو النشاط الزراعي بالبوادي، أو التحكيم بين القبائل في المناطق النائية، وتنظيم المواسم الدينية ذات البعد الثقافي والتواصلي الديني والنفع الاجتماعي والمساهمة في التعبئة الاجتماعية عندما تتعرض الأمة للتهديدات من الخارج والحرص الكبير على تحفيظ القرآن الكريم وتشييد مدارس التعليم الديني وخزائن الكتب، مما أدى إلى نشر المعارف وتشجيع التأليف، وتثبيت دعائم ثقافة التضامن والتلاحم الاجتماعي الآمن، وتثبيت قيم المواطنة والعمل على المحافظة والدفاع على الوطن ضد كل عدوان أو غزو خارجي.
إن التصوف من الدعامات الكبرى التي حافظت على الأمن الروحي للمغرب، لأن أهله تمسكوا بثوابت الهوية الدينية والوطنية اعتقادا وتطبيقا، وتعليما ونشرا وتأليفا منذ قرون، وتميزوا بصناعة النماذج الصالحة والقدوات الحسنة، التي بصمت تاريخ المغرب بآثارها الخالدة والناصعة والمرصعة بأخلاق الوسطية والاعتدال، والانفتاح على مختلف الحضارات، وحسن التعايش والتساكن مع مختلف الديانات السماوية، ولا يزال المغرب إلى يومنا هذا يتحلى بهذه الصفات التي تظهر امتزاج تاريخه الطويل، بعمق التجربة الروحية في الإسلام، مما أهله ليكون محطة الإشعاع الصوفي في إفريقيا، وأوروبا والمشرق العربي، إذ تنتشر الطرق الصوفية المغربية في كثير من بلدان تلك المناطق، والتي حملت معها السلم والأمن والأمان، والاطمئنان والاستقرار، وهذه هي مقومات الأمن الروحي المغربي الذي نعم به المغاربة في هذا البلد العريق، فهو أمانة الأجداد في أعناق الأجيال الحالية والمقبلة.
حضرات السيدات والسادة: إن التصوف باعتباره رصيدا روحيا وميراثا أخلاقيا قويا، له دور محوري في انتشال الإنسان من براثن الاسترقاق والاستعباد المادي والشهواني الجارف، فهو علم مقاصدي استفرغ الجهد في استنباط مآلات التشريع الأخلاقية، لأنه مستمد من مشكاة الوحي الذي يراعي مقتضيات الجسد ومتطلبات الروح.
ومن هذا المنظور تسري التربية الروحية في القلوب لتمد العقول بأسباب الإبداع والأمل والنهوض، وتجتث جذور اليأس والهدم والعدمية.
خاتمة:
لقد استطاع المغرب في ظل خصوصيته الدينية أن يقدم نموذجا حضاريا كونيا متميزا، كان له الإسهام الكبير في إشاعة روح السلم والسلام، وقيم التعايش والتسامح واحترام الغير باختلاف لونه، وجنسه ودينه وثقافته.
ولذلك فالمملكة المغربية تعتز بهذا الموروث الصوفي الكبير ضمن ثوابته الدينية، الذي عمل أهله في الماضي والحاضر على رعايته وتعهده، وترسيخ قيمه الهادية والبانية في مختلف ربوع البلاد، واجتهدوا في تعميم الانتفاع بفضائله في مختلف الآفاق، والذي نشهد حضوره وتأثيره القوي اليوم في ضمان تدين وسطي معتدل يعتبر المغرب رائده ونموذجه الحي إقليميا وقاريا وعالميا.
وعليه، فإن واجب الوقت يقتضي منا الاجتماع حول ملكنا وولي أمرنا مولانا أمير المؤمنين سيدي محمد السادس نصره الله؛ لما في الاجتماع عليه من حفظ للثوابت الدينية للأمة المغربية وضمان لوحدتها واستقرارها ودفع الفوضى عنها، ولا سيما في زمن ساد فيه التطرف الديني والتشدد المذهبي والغلو الفكري…
ولهذا فإن الناظر في الجهود العملية والتدابير الفعلية التي يبذلها جلالة الملك نصره الله بصفته أميرا للمؤمنين في سبيل تحقيق التعارف والتعايش والحوار بين بني الإنسان ليقف إجلالا وإعظاما لهذا المشروع الكوني الراقي للإنسانية جمعاء؛ لأجل توطيد قيم السلم والاستقرار لسائر الأوطان.
وخير ما نختم به موضوعنا، هذا المقتطف من خطاب العرش سنة 2015م، حيث قال صاحب الجلالة أمير المؤمنين الملك محمد السادس نصره الله: “وخير ما أختم به خطابي لك، شعبي العزيز، أن أذكرك بصيانة الأمانة الغالية التي ورثناها عن أجدادنا، وهي الهوية المغربية الأصيلة التي نحسد عليها، فمن واجبك الوطني والديني الحفاظ على هويتك، والتمسك بالمذهب السني المالكي الذي ارتضاه المغاربة أبا عن جد.
ولا تنس لماذا ضحى المغاربة بأرواحهم في الحرب العالمية الأولى والثانية، وفي مختلف بقاع العالم، ولماذا نفي جدنا المنعم جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه.
لقد كان ذلك من أجل نصرة القيم الروحية والإنسانية، التي نؤمن بها جميعا، كما نحارب اليوم ضد التطرف والإرهاب.
فهل هناك سبب يدفعنا للتخلي عن تقاليدنا وقيمنا الحضارية القائمة على التسامح والاعتدال، واتباع مذاهب أخرى لا علاقة لها بتربيتنا وأخلاقنا؟ …، وعليك أن ترفض كل دوافع التفرقة، وأن تظل كما كنت دائما، غيورا على وحدة مذهبك ومقدساتك، ثابتا على مبادئك، ومعتزا بدينك، وبانتمائك لوطنك.
قال تعالى: ﴿كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور﴾ صدق الله العظيم.
[1] – من حديث رواه النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” أخرجه البخاري في صحيحه، ح.ر: 6011
[2] – الاعتصام للإمام الشاطبي، الدار الأثرية، الطبعة الثانية 2007م، 1/141.
[3] – نفسه، 1/148.
[4] – مدارج السالكين في شرح منازل السائلين، لابن قيم الجوزية، دار الحديث، القاهرة طبعة 2005م، 2/258.
[5] – قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة 3، قاعدة 2 و62.
[6] – معراج التشوف إلى حقائق التصوف، للشيخ أحمد بن عجيبة، مركز التراث الثقافي المغري، الدار البيضاء، ص:4.
[7] – رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، ح.ر: 8.
[8] – حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة 3، 2007، 10/274.
[9] – الاعتصام للشاطبي، 1/148.
[10] – نفسه، 1/349.
[11] – الاعتصام للشاطبي، 1/165.