بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك المعبود، واهب الحياة وخالق الوجود، نحمده تبارك وتعالى ونستعينه فهو الرحيم الودود، ونعوذ بنور وجهه الكريم من فكر محدود، وقلب مسدود، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ذو الخلق الحميد، والرأي الرشيد، والقول السديد.
أما بعد؛
فمن المعلوم عند أهل العلم أن الثوابت الدينية تطلق على اختيارات المغرب منذ تأسيس دولته في باب العقيدة والفقه والسلوك وطريقة الحكم لتحقيق التوازن بين مصالحه في الدنيا والآخرة، وترسيخ قيم التعايش المشترك بين رعاياه في ربوع المملكة الآمنة، وبناء جسور التعاون مع شعوب العالم تحت قيادة أمير المؤمنين نصره الله الحكيمة. ووصف هذه الثوابت بالدينية لا يدل على وجود ثوابت أخرى غير دينية، كما لا يعني ذلك أن وظيفة هذه الثوابت التدين بمفهومه العامي الذي يطلق غالبا على فقه العبادات دون غيره؛ بل إن دلالتها أعمق وأشمل تعم قضايا الإيمان والعمل الصالح مفهوما وممارسة في بعدهما الروحي والمادي دون تمييز بينهما بزمان أو مكان. ومن تجليات المعنى الشمولي للثوابت الدينية عنوان هذه الدراسة الذي وسمناه بـ: “الثوابت الدينية ودورها في قيادة قاطرة التنمية من خلال النموذج التنموي المغربي الجديد” ويراد بالنموذج التنموي المنهج العام الذي يحدد تطلعات المغاربة وطموحاتهم المستقبلية، ويقترح طرق التنظيم وآليات التنفيذ للقضايا الوطنية الكبرى، وفق رؤية واضحة تبدأ بترتيب الأولويات وتنتهي بتنزيل الجزئيات من خلال سياسة عمومية نزيهة وعادلة قائمة على احترام المقدسات الدينية والوطنية للشعب المغربي الأبي.
وتستمد الثوابت الدينية مكانتها من قواعد الإسلام عقيدة وأحكاما وأخلاقا، فهي زبد قيمه التي يبني عليها المغاربة رصيدهم من الرأسمال غير المادي الذي يشكل اللبنة الأساس في خلق تنمية شاملة ومستدامة، تنمية مغربية خاصة تسقى من معين تراثه الفكري والفقهي والسلوكي، وتنتج ثمارا مغربية خالصة تغذي الروح والجسد، ليشتد بذلك بناء الصرح المغربي ويستوي قوامه ويقوى حضوره في ظل مبادئ الوسطية والاعتدال، وتتجذر أسسه في تربة قيم التسامح والتعايش، فيخفض للمغاربة جناح الذل من الرحمة، ويعيش الكل في كنف نعمه تحت مظلة المودة والرأفة والأخوة والمحبة التي تنشرها مؤسسة إمارة المؤمنين.
فالثوابت الدينية أركان أربعة تمثل الجبال الرواسي التي يسند الشعب المغرب إليها ظهره مطمئنا وآمنا، لكونها جمعت بين الأسس الدينية التي تحقق التدين الأمثل للمواطن المغربي المسلم، وبين الأسس الدنيوية التي ترشد المجتمع إلى ما فيه الخير في الحاضر وتتفتح له باب الاجتهاد لتدبير المستقبل، فالثوابت الدينية بأبعادها الروحية والمادية من خصوصيات هذا الوطن المبارك.
وتسعى هذه الدراسة الى بيان قدرة الثوابت الدينة على قيادة قافلة التنمية بالمغرب من خلال ما تتميز به من رصانة في التقعيد ومرونة في المنهج، كما أنها تحاول رفع الغموض الذي عم تمثلات الناس بكون هذه الثوابت تهم الشأن الديني فقط ولا يمكنها إيجاد الحلول للقضايا الراهنة التي يعيشها الشعب المغربي وعلى رأسها مسألة التنمية، ويرمي هذا البحث أيضا إلى ربط قضية التنمية في بعدها الاجتماعي والاقتصادي بالبعد الروحي الذي يمثل جوهر التطور وشريان الحضارة.
إن النموذج التنموي الجديد انطلق من أرضية حدد أسسها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله في ثلاثة توجهات ليكون نموذجا تقيميا، واستباقيا، واستشرافيا، وتقضي هذه التوجيهات المولوية السامية باقتراح وسائل لخلق الثروة، والبحث عن السبل الكفيلة بالتوزيع العادل لها، والعمل على تحقيق صيانة الكرامة الإنسانية. فهل استطاع النموذج التنموي الجديد أن يستحضر في صياغة تقريره الخصوصية الدينية والروحية للمغرب؟ وكيف تحدث عملية التأثير والتأثر بين الثوابت الدينية وقضايا التنمية؟ ثم إلى أي حد يمكن للثوابت الدينية أن تقوم بالدور القيادي للنموذج التنموي الجديد؟ وهل تمتلك هذه الثوابت مقومات قيادة النموذج التنموي المغربي؟
هذه الأسئلة وإن كانت تطرح قضايا كبرى لا تتسع هذه الدراسة لاستيعاب تفاصيلها وجمع شتاتها إلا أنها تسلط الضوء على كثير من تفاصيلها الجزئية التي تصلح أن تكون محور الدراسات العلمية الجادة والمثمرة، وقد اقتضى أمر بحثها اعتماد الخطة الإجمالية التالية:
المحور الأول: الثوابت الدينية: جذور إسلامية وخصوصية مغربية.
المحور الثاني: البعد القيادي للثوابت الدينية في النموذج التنموي الجديد.
إن اختيارات المغرب في مسألة الثوابت الدينية قائمة على أصل شرعي صريح، ذلك أن من صلاحية إمارة المؤمنين إقرار ما فيه مصلحة البلاد والعباد في المسائل الاجتهادية حفاظا على وحدة الوطن وسعيا لتوطيد أركان استقراره، فإقرار المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، وطريقة الجنيد يدخل تحت قاعدة “تقييد السلطان للمباح أو الإلزام به” وقاعدة “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” لأن المغاربة لما بايعوا أمير المؤمنين فوضوا له هذه الصلاحية التي تخدم مصالحهم.
قال رشيد رضا: “الخلافة، والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين ، ثلاث كلمات معناها واحد، وهو رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا”([1]). تستمد إمارة المؤمنين هذه الصلاحية من الأحكام الشرعية المنظمة لها، قال ابن حزم: “اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام ﷲ ويسوسهم بأحكام الشريعة”([2]). أما وجوب الانقياد له فثابت بالكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الاَخر، ذلك خير وأحسن تاويلا﴾([3]). روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “نزلت في عبد ﷲ بن حُذافة بن قيس الأنصاري البدري، وكان به دعابة؛ إذ بعثه رسول ﷲ ﷺ على سرية فأمرهم يومًا أن يجمعوا حطبًا ويوقدوا نارًا ففعلوا، ثم أمرهم أن يدخلوها محتجًّا عليهم بقوله ﷺ: (مَن أطاع أميـري فقد أطاعني، ومَن عصى أميـري فقد عصاني). فلم يستجيبوا له، وقالوا له: إنما آمنا وأسلمنا لننجوَ من النار، فكيف نُعذِّب أنفسنا بها؟! وذكر ذلك لرسول ﷲ ﷺ، فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها؛ إنما الطاعة في المعروف)([4]). قال ابن حجر: “في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافا لمن قال نزلت في العلماء، وقد رجح ذلك أيضا الطبري… وقال ابن عُيينة: سألت زيد بن أسلم عنها ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: ﴿اِن الله يامركم أن تؤدّوا الاَمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ الآية، فقال: هذه في الولاة.([5])
والأحاديث الدالة على طاعة أولي الأمر كثيرة، قال القنوجي: “وطاعةُ الأئمة واجبة إلا في معصية ﷲ… فإن الأحاديث المتواترة– يقصد التواتر المعنوي- قد دلت على ذلك دلالة أوضح من شمس النهار ومن له الاطلاع على ما جاءت به السنة المطهرة انشرح صدره لهذا فإن به يجمع شمل الأحاديث الواردة في الطاعة مع ما يشهد لها من الآيات القرآنية”([6]). وقد حدد الرسول ﷺ الفئة التي تتولى أمور المسلمين فقال: “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان“([7]) قال النووي:” هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان”([8]). قال الكرماني: “فإن قلت كيف خلا زماننا عن خلافتهم؟. قلت: لم يخل، إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل”([9]). وعلى المستوى العملي فقد بايع الصحابة أبا بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناء على هذه الأدلة الساطعة “اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن الإمامة فرض، وأنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين، وينصف المظلومين من الظالمين”([10]).
فالإمامة والأمة بينهما روابط متينة مبنى ومعنى؛ إذ الهمزة والميم أصلٌ واحدٌ، يتفرّع منه أربع أبواب، وهي الأصل، والمرجِع، والجماعة، والدِّين، وهذه الأربعة متقاربة. والإمام: “كلُّ من اقتُدِي به وقُدِّم في الأمور”([11]). وبناء على هذا التلاحم اللغوي والشرعي فإن الإمام له السلطة الشرعية لاختيار ثوابت يجمع عليها وحدة الامة؛ إذ من مهامه “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع، في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”([12]). وانطلاقا من هذا المبدأ الشرعي والواقعي الذي تقوم عليه إمارة المؤمنين فإن المولى إدريس لما بايعه المغاربة اختار لهم منذ ذلك الحين مذهب مالك في الفروع الفقهية. ولعل من الأسباب التي دفعت المولى إدريس لاختيار مذهب مالك رسميا في المغرب روايته للموطأ عن والده عبد الله الكامل “وهكذا جاءهم بالموطأ فنشره بينهم، وكان يؤثر عنه قوله: نحن أحق باتباع مذهب مالك وقراءة كتابه وذلك لرواية الإمام إدريس للموطأ عن والده عبد الله الكامل”([13]). وهذا ما أكده الكتاني حين قال: “وبدخول الموطأ المغرب تحول المغاربة من المذهب الحنفي إلى المذهب المالكي، إذ لم يكد القرن الرابع يطل، حتى كان المذهب المالكي قد بدأ ينتشر في المغرب الأقصى وتتجدر أصوله وفروعه في سائر مرافق الحياة”([14]).
وأمام هذا الرأي هناك توجه ثان يؤكد على أن إدريس بن إدريس اختار مذهب الإمام مالك ليكون رسميا للدولة، وأصدر أمره لولاته بذلك؛ بل جزم البعض أن إدريس بن إدريس كان مالكي المذهب، ويحفظ الموطأ ويستوعبه.([15])
وبناء على ما سبق فإن المذهب المالكي ظل منذ اعتماده بشكل رسمي في المغرب شعارا من شعارات الدولة المغربية، باعتباره مظهرا من مظاهر الوحدة الدينة التي أسهمت في تكوين الشخصية المغربية المتشبعة بقيم التسامح والتعايش مع الآخر؛ نظرا لكون المذهب المالكي يشكل مدرسة تربوية قائمة الأركان وقادرة على استيعاب المستجدات وضبط المتغيرات، لما تتميز به من شمولية في الأصول، وتنوع في القواعد، ومرونة في المنهج، مما جعل الكثير من القوانين الوضعية تستمد نظامها وبنودها من فقهه، إضافة إلى أن مالكا رحمه الله كان عالم المدينة وفقيهها، عرف بدفاعه الشديد عن السنة الصحيحة وبتمسكه بسنة الصحابة والتابعين والعمل بآرائهم فورث علم اهل المدينة، هذا كله جعل المغاربة مجمعين عليه ومدافعين عنه ومقبلين على الالتزام بمذهبه.
وتتجلى مكانة إمارة المؤمنين في العقيدة الاشعرية من خلال مبحث الإمامة العظمى وما يرتبط بها من الاعتقاد، وقد وقع بين علماء الكلام الاختلاف في مسألة نصب الإمام؛ إذ يرى البعض أنه واجب على الخالق كما قرر ذلك الإسماعلية، وبعضهم قال واجب على الخلق، واختلفوا في الوسيلة فقيل واجب عليهم عقلا وهو مذهب أكثر المعتزلة، وقيل واجب عليهم شرعا وهو مذهب الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة، وقد جمع بين الأمرين الجاحظ وأبو الحسن البصري وأبو القاسم الكعبي (ت. 319هـ) من المعتزلة فرأوا أنها تجب بالعقل والشرع معا.([16]) ويرى أبو الحسن الأشعري: “أن الواجبات كلَّها سمعية والعقلَ لا يوجب شيئا، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا“([17]).
وتبرز علاقة إمارة المؤمنين بالعقيدة الأشعرية في كون نصب الإمام مما يتوقف عليه الواجب الشرعي من عبادات ومعاملات وغيرهما، وما يتوقف عليه الواجب الشرعي، واجب تحصيله شرعا. أما وجه بحث مسألة إمارة المؤمنين في علم الكلام فإنه لنفي ما ارتبط بها من الاعتقادات الخاطئة، يقول مصطفى الكستلي: “والإمامة جَعَلَها من مقاصد علم الكلام: وإن كانت هي أيضا من الفروع عندنا بناء على أن نصب الإمام من الأفعال الواجبة علينا، لَمَّـا أن السلف ألحقوا مباحثها بأواخر الكتب الكلامية بناء على أنه قد شاع بسببها خرافات من أهل البدع والأهواء، في حق كبار الصحابة والأئمة المهديين، فناسب دفع المطاعن عنهم بمباحث الكلام، صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ في الدين بسبب الميل إلى ما يحكونه ويحاكون ويلمحونه ويبدون”([18]). والظاهر أن بحث الإمامة في علم الكلام كان الغاية منه التعرض للانحراف العقدي الذي صاحب مسألة نصب الإمام وما ارتبط بذلك من خرافات أثرت سلبا على ايمان الناس، ذلك أن أمور الدين متوقفة على مؤسسة إمارة المؤمنين فتصويب المعتقد تجاهها يدرج ضمن مباحث علم الكلام.
ومما تميز به المذهب الأشعري أنه خرج من رحم الصراع الفكري الذي عرفه المشرق، وقد أسس قواعده على منهج الجدل والحجاج من خلال معاركه الفكرية مع المعتزلة الذي كان أبو الحسن على دراية تامة بأصولهم ومنهجم حين كان معتزليا قبل أن يعرض عن ذلك ويبني مذهبه العقدي على أصول وقواعد مقنعة، استمدها من منهج أهل السنة والجماعة، فكان بذلك قادرا على جمع الأمة وتوحيد صفها وفق ما يقتضيه مبدأ الوسطية والاعتدال بعيدا عن التطرف والغلو والانحراف “وحين اختار المغاربة الأشعرية، فإنهم كانوا يعيشون مثل الظرف الذي شهد نشأة الأشعرية، وهو ظرف اكتسحت فيه الفرق الكلامية الحياة الدينية، وألزمت الناس باختياراتها، فكان قصد المغاربة الاستفادة من الخصائص الجدالية الأشعرية فواجهوا به العقائد المستفحلة. وكان من أثر نشر هذا المذهب أن غاضت المذاهب وتهاوت بعد سجال الأشعرية معها وتفكيك مقولاتها، وإبراز مواضع الضعف فيها”([19]).
أما طريقة الجنيد فإن روابطها بإمارة المؤمنين تبدو قوية؛ إذ التصوف السني يستمد مشروعيته من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين الذين كانوا أئمة المسلمين، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الاقتداء بهم، ودلت السنة على أن الإحسان أعلى درجات الدين كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، ومن ثم لم يخل عصر من الأعصار في مدة الإسلام– كما قال الإمام القشيـري– إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة ممن له علوم التوحيد.([20]) إن طريقة الجنيد هي أسلم طرق التصوف لكونها خالية من الشبهات والبدع. وقد قال: “من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”([21])، وقال: “ومذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة”([22])، وقال أيضا: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام”([23]). وقال في التصوف: “تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء على الحقيقة، واتباع الرسول ﷺ في الشريعة”([24]).
وارتباطا بما سبق فإن طريقة الجنيد مؤسسة على منهج النبوة ومذهب الخلفاء، وهي بذلك طريقة لحفظ النظام العام للمغرب؛ لأن أتباع هذه الطريقة يقولون بالإجماع على تحريم الخروج عن الإمام بقول أو فعل، وهو ما عبر عنه الشيخ زروق في قواعد التصوف القاعدة 89 بقوله: “حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازم، فلذا أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام، بقول أو فعل…”([25]). فالتصوف يلزم الرعية بالالتفاف حول مؤسسة إمارة المؤمنين والاجتهاد في خدمتها، يقول الطرطوشي: “فحقيق على كل رعية أن ترغب إلى ﷲ تعالى في إصلاح السلطان، وأن تبذل له نصحها، وتخصه بصالح دعائها، فإن في صلاحه صلاح العباد والبلاد، وفي فساده فساد العباد والبلاد، وكان العلماء يقولون: إن استقامت لكم أمور السلطان فأكثروا حمد ﷲ تعالى واشكروه، وإن جاءكم ما تكرهون وجهوه إلى ما تستوجبونه منه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم، فأقيموا عذر السلطان بانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده”([26]).
شخصت مؤسسة إمارة المؤمنين في خطابتها المتكرر الاختلالات التي يعيشها المغرب في مجال التنمية، قال صاحب الجلالة محمد السادس حفظه الله ونصره في خطابه السامي: “إن النمـوذج التنمـوي الوطنـي أصبـح اليـوم، غيــر قــادر علــى الاستجابة للمطالــب الملحــة، والحاجيــات المتزايــدة للمواطنيــن، وغيــر قــادر علــى الحــد مــن الفـوارق بيـن الفئـات ومـن التفاوتـات المجاليـة، وعلـى تحقيـق العدالـة الاجتماعية”([27]). ومن خلال تتبعه حفظه الله لمسألة التنمية بالمغرب قال في خطابه الثاني: “لقـد دعـوت، مـن هـذا المنبـر، فـي السـنة الماضيـة، إلـى إعـادة النظـر فـي النمـوذج التنمـوي الوطني… لـذا قررنـا تكليـف لجنـة خاصـة…علـى أن ترفـع إلـى نظرنـا السـامي، مشـروع النمـوذج التنمـوي الجديـد، مـع تحديـد الأهداف المرسـومة لـه، وروافـد التغييـر المقترحـة، وكـذا سـبل تنزيلـه”([28]). وتفعيلا للدور القيادي لإمارة المؤمنين في قضية كبرى تهم الشأن المغربي فإن جلالته حفظه الله ونصره، أعطى للجنة المكلفة بإعداد النموذج التنموي الجديد التوجيهات اللازمة لتقوم بعملها على أكمل وجه فقال: “وإننـا ننتظـر منهـا أن تباشـر عملهـا، بـكل تجـرد وموضوعيـة، وأن ترفـع لنـا الحقيقـة، ولـو كانـت قاسـية أو مؤلمـة، وأن تتحلـى بالشـجاعة والابتكار فـي اقتـراح الحلـول… ويبقـى الأهم هـو التحلـي بالحـزم والإقدام، وبـروح المسـؤولية العاليـة، فـي تنفيـذ الخلاصـات والتوصيـات الوجيهـة، التـي سـيتم اعتمادهـا، ولـو كانـت صعبـة أو مكلفـة”([29]).
إن المتأمل في وظيفة أميـر المؤمنين، وحامي حمى الوطن والدين جلالة الملك محمد السادس نصره ﷲ، فيما يـتعلق بتحقيق التنمية يجدها قائمة على أمرين:
أحدهما: التركيز على ما هو موجود ومحقق ليتم البناء عليه فقال حفظه الله ونصره موجها خطابه للجنة التي كلفها بإعداد النموذج التنموي الجديد ومن خلالها إلى كل المغاربة: “إن الأمـر لا يتعلـق بإجـراء قطيعـة مـع الماضـي، وإنمـا نهـدف لإضافـة لبنـة جديـدة فـي مسـارنا التنمـوي، فـي ظـل الاسـتمرارية”([30]).
والثاني: الابتكار والإبداع في اقتراح ما يفيد المجتمع المغربي في تطوير بلاده “وإننـا ننتظـر منهـا أن تباشـر عملهـا… وأن تتحلـى بالشـجاعة والابتـكار فـي اقتـراح الحلـول”([31]).
إن قيادة أمير المؤمنين لقاطرة التنمية بالمغرب تنطلق من توظيفه للثوابت الدينية التي يسهر على حفظها كما جاء في الظهيـر الشريف رقم 1.08.16 الصادر في 20 أكتوبر 2008م بإعادة تنظيم المجالس العلمية: “بناء على مقتضيات الدستور التي تخول لجلالتنا بصفتنا أميـر المؤمنين واجب السهر على حماية وصون القيم والتعاليم الإسلامية للمغاربة المسلمين فيما يتصل بصون عقيدتهم وممارسة شعائرهم بما ينسجم مع روح ديننا الإسلامي الأصيل ويتماشى مع نهج أسلافنا المنعمين من عقيدة أشعرية ومذهب مالكي وصوفية سنية”؛ لأن هذه الثوابت تقوم بدور التأطير والتوجيه كما أشار إلى ذلك وزير الأوقاف أحمد التوفيق قائلا: “وأن هذه الثوابت ذات وظيفة تأطيرية إذ تؤطر أمرين أساسيين هما: العمل والإيمان مصداقا لقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكّنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا)([32])، أي أن عمل الصالحات في علاقته بالاستخلاف في الأرض ينطبق بالخصوص على عمل الأمة وعلى رأسها الدولة في عملها السياسي”([33]). وهذا من خصوصيات الجمع بين الديني والدنيوي في النموذج المغربي، فأميـر المؤمنين نصره ﷲ باعتباره ملك البلاد، وهو الساهر على مصالح العباد بموجب الصلاحيات الدينية والسياسية التي نص عليها دستور المملكة المغربية عام 2011م.([34])
إن الجمع بين الديني والدنيوي هو مظهر من مظاهر الرؤية الشاملة التي تنظر بها مؤسسة إمارة المؤمنين للإسلام، وقد اهتم أهل العلم قديما وحديثا ببيان العلاقة بين العبادات والمعاملات والأخلاق، حرصا منهم على بناء مفهوم شمولي للدين الذي يحصره البعض في مجال العبادات فقط؛ بل اعتبروا كلا من العبادات والمعاملات والأخلاق حقوقا جامعة لحق الله والعبد ومركبة منهما، وأن هذه الحقوق مبنية كلها على مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد.([35]) فإمارة المؤمنين تتبوأ المكانة الأعلى في هذه الثوابت الدينية لكونها تتحمل مسؤولية حفظ الأمن الديني والدنيوي للمغاربة؛ أي لها صلاحية تأطير الجانب الإيماني والجانب العملي مصداقا لقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكّنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا)([36]). وفي ذلك اقتداء بالمنهج النبوي باعتباره خليفة للمسلمين حيث قام بوظيفة تبليغ الرسالة قولا وعملا، وبنى الدولة وثبت أركانها لتأخذ مسارها الصحيح في عهد الخلفاء الراشدين على أساس البيعة الشرعية، التي تجمع في عمقها وممارستها شؤون الدين والدنيا، وهو ما قام به أمير المؤمنين حين أعطى تعليماته السامية لابتكار نموذج تنموي مغربي.
وبناء على المبدأ الجامع بين الدين والدنيا في مهام إمارة المؤمنين أسس الدستور المغربي قواعده التي تحكم علاقة الشعب بحاكمه؛ حيث نص على أن المملكة المغربية دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، وأنها تلتزم بما تقتضيه المواثيق الدولية من حقوق وواجبات. وأشار الفصل الأول منه إلى بيان نظام الحكم بالمغرب باعتباره نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية. ولعل قيادة أمير المؤمنين للنموذج التنموي تجسد فيها كل هذا؛ فهو باعتباره ملكا يستمد شرعيته من البيعة الشرعية فقد وجه خطابه للأمة محذرا إياها من المخاطر التي تحذق بالتنمية في المغرب، وباعتبار سلطته القائمة على التشاور فقد أسند مهمة البحث عن نموذج تنموي جديد الى لجنة تتميز بالكفاءة والتجربة والحنكة تمثل مختلف التخصصات العلمية وغيرها، وباعتباره ممثلا لجميع فئات الشعب المغربي فقد حث على أن يكون النموذج التنموي شاملا لكل شرائح المجتمع المغربي قائلا حفظه الله ونصره: “لقـد دعـوت… إلـى إعـادة النظـر فـي النمـوذج التنمـوي الوطنـي، وبلـورة منظــور جديــد، يســتجيب لحاجيــات المواطنيــن، وقــادر علــى الحــد مــن الفــوارق والتفاوتــات، وعلــى تحقيــق العدالـة الاجتماعيـة والمجاليـة ومواكبـة التطـورات الوطنيـة والعالميـة”([37]).
إن قيادة أمير المؤمنين نصره الله للنموذج التنموي المغربي في بعده الديني والدنيوي يدخل في صلاحيته التي نص عليها الدستور، ومنها ما جاء في الفصل 42: “الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سيـر المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة”.
تبرز هذه السلطة في أمرين اثنين:
الأمر الأول: اعتماد اللجنة المكلفة في صياغتها للنموذج التنموي على الثوابت الدينية كما جاء في التقرير نفسه “يسـتند تصـور النمـوذج التنمـوي الجديـد علـى الدسـتور كإطـار مرجعـي… صادقـت عليـه الغالبيـة العظمـى مـن المغاربـة المرجعيـة الموحـدة والجامعـة للنمـوذج التنمـوي الجديـد”([38]). وقد بني الدستور المغربي على دعامتين كما جاء في الخطاب السامي لجلالة الملك قائلا: “وتتمثل الدعامة الأولى، في التشبث بالثوابت الراسخة للأمة المغربية، التي نحن على استمرارها مؤتمنون؛ وذلك ضمن دولة إسلامية، يتولى فيها الملك، أمير المؤمنين، حماية الملة والدين، وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية”([39]). وجاء في الفقرة 2 من الفصل الأول من الدستور: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح…”. وأكد الفصل الثالث على ذلك بقوله: “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”([40]). وقد اختار المغاربة مذهب مالك في الفقه مرجعا لهم كما اعتمد النموذج التنموي على ذلك أيضا حين نص على أن: “المذهـب المالكـي بسـماته المتميـزة، والقـدرة علـى اسـتلهام الحلـول مـن مـدارس التفسـير الأخرى، فضـلا عـن الترسـيخ الثابـت والقـدرة علـى مواكبـة التطـورات التـي تمنحهـا لـه مؤسسـة إمـارة المؤمنيـن، كلهـا عوامل تعطـي للأمـة المغربيـة القـدرة والمرونـة الضروريتين لتطورهـا”([41]).
بناء على هذه الاعتبارات فإن الثوابت الدينية هي المنهج النظري والعملي للدين الإسلامي الذي أجمع المغاربة على التدين به، وهي أيضا من هذا المنطلق مرجع وأصل للنموذج التنموي الجديد الذي يجب أن تساغ محاوره وفق مبادئ الإسلام.
الأمر الثاني: احتكام المغاربة في قضايا التنمية المختلف فيها إلى الثوابت الدينية التي تقوم بدور القيادة والإرشاد في بناء نموذج تنموي منسجم مع الخصوصية المغربية، “المتتبع لمسار التدين بالمغرب يستخلص بعد قراءة متأنية أن هذا النموذج لم يكن في يوم ما أكثر قوة ومنعة مما هو عليه الآن، وقد كان من التصاريف الإلهية أن وفق الله أمير المومنين ومنذ أن اعتلى عرش أسلافه المنعمين إلى العكوف على تقوية هذا النموذج بإصرار شديد، وبنفس طويل، وبإرادة لا يعتريها الكلل ولا الملل، فأنشأتم شبكة من المؤسسات الراعية للتدين، وأصدرتم مجموعة من الظهائر المؤسسة”([42]).
وقد أشارت اللجنة المكلفة بالنموذج التنموي إلى احتكام المغاربة في قضايا مهمة إلى هذه الثوابت وعلى رأسها قضية مدونة الأسرة المغربية، “إن المذهـب المالكـي بسـماته المتميـزة… ومؤسسـة إمـارة المؤمنيـن، كلهـا عوامل تعطـي للأمـة المغربيـة القـدرة والمرونـة الضرورييـن لتطورهـا، كمـا تـم إثبـات ذلـك مـن خـال إصلاح مدونـة الأسـرة. ويشـكل هـذا مصـدر إلهـام ومعيـار منهجـي للنمـوذج التنمـوي الجديـد”([43]).
ومما يدل على أن الثوابت الدينية صالحة لتكون حكما يقرب وجهات النظر بين مختلف الشرائح الاجتماعية بالمغرب في قضايا التنمية، قيام النموذج التنموي الجديد على اقتراح مجموعة من القضايا الدينية التي لها صلة وطيدة بالتنمية ومناقشتها من طرف أهل الاختصاص، جاء فيه: “ولأجـل ذلـك… يقتـرح خلـق فضـاءات للنقـاش المجتمعـي والفقهي باعتبـاره إطارا هادئـا ورصينـا قصـد التقـدم فـي مناقشـة بعـض القضايـا المجتمعيـة”([44])، ونص أيضا على هذه القضايا التي تعتبر من صميم التنمية ويتوقف الحسم فيها على ضرورة موافقتها للثوابت الدينية.
ومما لا شك فيه أن هذا التوجه يعد من صميم التنمية الشاملة نظرا لما ترتبط به من فئات اجتماعية لها دورها الفعال والمؤثر في الإقلاع التنموي، لأن ذلك من اختصاص الشريعة بالدرجة الأولى، لأنها تهم الشعب المغربي فإن صلاحية الحسم فيها من الناحية الفقهية تعود للمجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه جلالة الملك حفظه الله ونصره “يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة”([45]). وتفاديا لأي انحراف قد يقع باسم الدين فإن جلالته نص في خطابه السامي على أن الفتوى عمل مؤسساتي حيث قال حفظه الله: “أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى، لاقتراح الفتاوى على جلالتنا، وفيما يتعلق بالنوازل، التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها، قطعا لدابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية، وإننا لننتظر منكم، أن تجعلوا من هيئة الفتوى، آلية لتفعيل الاجتهاد الديني، الذي تميز به المغرب على مر العصور، في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسيما قاعدة المصالح المرسلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة، بين الأنظار الفقهية والخبرة الميدانية. وبذلكم نقوم بتحصين الفتوى، التي هي أحد مقومات الشأن الديني، بجعلها عملا مؤسسيا، واجتهادا جماعيا، لا مجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين، ولتطاول السفهاء والمشعوذين، ولا للمزاعم الافترائية الفردية”([46]).
إن ربط النمو الاقتصادي للبلاد بالمؤسسات الدينية أمر مهم لما يحققه ذلك من سكينة روحية واطمئنان للمواطن على دينه حين يرى تدخل العلماء في القضايا المجتمعية الكبرى للحسم فيها من وجهة نظر الشرع، إذ شعور الشعب المغربي المسلم بالارتياح على مستوى التدين يحفزه على المشاركة والمبادرة في بناء التنمية المغربية، لكونه يرى ذلك تعبدا مصداقا لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون)([47])، وقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)([48]) وقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)([49]) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ)([50])، إذ كل هذه التوجيهات الإسلامية تَضْمَنُ الثوابت الدينية تحققها في النموذج التنموي المغربي.
وعليه؛ فالاحتكام الى الثوابت الدينية يؤثر إيجابا على النموذج التنموي الجديد من خلال المدخلات التالية:
فالمغاربة حين ينظرون الى الدين في علاقته بالتنمية يركزون على مدى حضوره العملي في التوجهات العامة للبناء التنموي، وهذا له أثر واضح على تطور التنمية؛ لأن الدين له علاقة بسلوك المسلم سواء المالي أو غيره، إذ بناء التنمية على الثوابت الدينية تجعل المسلم يقبل عليها وينخرط في مسارها، أما مخالفتها لها تدفعه إلى الابتعاد وتجنب الخوض في ذلك بناء على الوازع الديني الذي يشير إليه الحديث النبوي الشريف: (فَمَنِ اتَّقَى المشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)([52]).
يمكن القول إن البحث في مجال التنمية انطلاقا من منظور شرعي لازال لم يستوف حقه بعد؛ إذ معظم ما كتب اعتمد على التأصيل لقضايا التنمية مع الإشارة الى توجيهات الإسلام في ذلك، والحال أن التنمية مرتبطة بواقع المسلم المتطور؛ فهي أيضا متجددة ومتحركة لكونها تسعى الى البحث عن الرفاه والتقدم، لذلك أرى ان الوقت قد حان لدراسة مسألة التنمية وفق منهج شرعي ينطلق من التحديات التي تواجه التنمية في المغرب ويقترح البدائل التي أشار إليها الإسلام لبناء نموذج تنموي ثابت الأركان ويمتلك القدرة على التطور والتجدد. ولعل هذا ما يسعى اليه المغرب من خلال ثوابته الدينية التي تحظى باهتمام مؤسسة إمارة المؤمنين، وقد حاولت هذه الدراسة ان تكشف طبيعة العلاقة بين الثوابت الدينية والنموذج التنموي المغربي الجديد، وقد توصل هذا البحث إلى النتائج التالية:
ــــ إن اختيارات المغرب في مسألة الثوابت الدينية قائمة على أصل شرعي صريح؛ لأن من صلاحية إمارة المؤمنين إقرار ما فيه مصلحة البلاد والعباد في المسائل الاجتهادية حفاظا على وحدة الوطن وسعيا لتوطيد أركان استقراره، فإقرار المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، وطريقة الجنيد يدخل تحت قاعدة “تقييد السلطان للمباح أو الإلزام به” وقاعدة “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” لأن المغاربة لما بايعوا أمير المؤمنين فوضوا له هذه الصلاحية التي تخدم مصالحهم.
ــــ ظل المذهب المالكي منذ اعتماده بشكل رسمي في المغرب شعارا من شعارات الدولة المغربية، باعتباره مظهرا من مظاهر الوحدة الدينة التي أسهمت في تكوين الشخصية المغربية المتشبعة بقيم التسامح والتعايش مع الآخر.
ــــ إن طريقة الجنيد مؤسسة على منهج النبوة ومذهب الخلفاء، وهي بذلك طريقة لحفظ النظام العام للمغرب؛ لأن أتباع هذه الطريقة يقولون بالإجماع على تحريم الخروج عن الإمام بقول أو فعل.
ـــ الثوابت الدينة لا تهم الشأن الديني فقط؛ بل يمكنها إيجاد الحلول للقضايا الراهنة التي يعيشها الشعب المغربي وعلى رأسها مسألة التنمية، فهي قادرة على قيادة قافلة التنمية بالمغرب من خلال ما تتميز به من رصانة في التقعيد ومرونة في المنهج.
ــــ انطلق النموذج التنموي الجديد من أرضية حدد أسسها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله في ثلاثة توجهات ليكون نموذجا تقيميا، واستباقيا، واستشرافيا، وتقضي هذه التوجيهات المولوية السامية باقتراح وسائل لخلق الثروة، والبحث عن السبل الكفيلة بالتوزيع العادل لها، والعمل على تحقيق صيانة الكرامة الإنسانية.
ــــ إن البناء التنموي متوقف على البناء الإنساني، لذلك اهتمت الثوابت الدينية بخدمة الإنسان؛ إذ لا قيام لمصالح الدين والدنيا إلا بصلاح الإنسان، ولا وجود للإنسان البناء إلا إذا نشأ في مجتمع مستقر يحفظ له كل حقوقه المادية والروحية وهذا ما تحققه الثوابت الدينية للمواطن المغربي.
ـــ إن تحقق العدالة في مجال التنمية متوقف على التزام المواطن المغربي بالثوابت الدينية، إذ بهذا التماسك يمكن استثمار قيم الدين في إنتاج الثروة وتنميتها، وبالتالي التخفيف من حدة الفقر وتحقيق الرفاه، فضعف التنمية في بلد ما دال بوجه ما على ضعف التدين بذاك البلد؛ إذ الدين يحث على العمل ويشجع على المبادرة الى فعل الخير ويحفز على الإبداع والابتكار.
ـــ إن تعليمات أمير المؤمنين نصره الله فيما يـتعلق بتحقيق التنمية قائمة على أمرين: أحدها التركيز على ما هو موجود ومحقق ليتم البناء عليه. والثاني: الابتكار والإبداع في اقتراح ما يفيد المواطن المغربي.
ــــ الثوابت الدينية مرجع شرعي للنموذج التنموي الجديد من خلال اعتماد اللجنة المكلفة في صياغتها للنموذج التنموي على هذه الثوابت كما جاء في التقرير نفسه، ومن خلال احتكام المغاربة في قضايا التنمية المختلف فيها إلى الثوابت الدينية.
ـــ إن ربط النمو الاقتصادي للبلاد بالمؤسسات الدينية أمر مهم لما يحققه ذلك من سكينة روحية واطمئنان للمواطن على دينه حين يرى تدخل العلماء في القضايا المجتمعية الكبرى للحسم فيها من وجهة نظر الشرع، إذ شعور الشعب المغربي المسلم بالارتياح على مستوى التدين يحفزه على المشاركة والمبادرة في بناء التنمية المغربية، لكونه يرى ذلك تعبدا.
ـــ من أجل توظيف الثوابت الدينية في مجال التنمية بادر أمير المؤمنين نصره الله إلى تأهيل الشأن الديني، فمسألة تقدم البلاد متوقفة على رفع كل التحديات التي ترتبط بالحقل الديني في علاقته بالتنمية البشرية.
([1]) محمد رشيد رضا، الخلافة، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، د. ط. د. ت. ص: 16
([2]) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ط، د.ت. ج4، ص: 72
([4]) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، رقم الحديث: 7145
([5]) ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة – بيروت، د. ط، 1379، ج13، ص:111
([6]) أبو الطيب القنوجي البخاري، العبـرة ممـا جـاء في الغـزو والشهادة والهجرة، تح، محمد السعيد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1985، ص: 40 و42
([7]) صحيح البخاري كتاب الأحكام، باب الأمراء من قريش، رقم الحديث: 6721. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش، رقم الحديث: 1820
([8]) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1392هـ ج12، ص: 200
([9]) الكرماني، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1401هـ -1981م، ج24، ص: 194
([10]) الجزري، الفقه على المذاهب الأربعة، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط2، 1424 هـ -2003م، ج5، ص: 336
([11]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تح، عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، د. ط، 1399هـ – 1979م. كتاب الهمزة، باب الهمزة في الذي يقال له المضاعف، (مادة أم)
([12]) ابن خلدون، المقدمة، تح، خليل شحادة، دار الفكر، بيروت ط2، 1408 هـ – 1987م، ج1، ص: 239
([13]) عبد الهادي التازي، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1973م. ص: 118
([14]) محمد بن جعفر الكتاني، الأزهار العاطرة الأنفاس في ذكر بعض محاسن قطب المغرب وتاج فاس المطبعة الجديدة، 1414هـ، ص: 130
([15]) المكناسي، جدوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام بمدينة فاس، طبع دار المنصور للطباعة والوراقة الرباط، ج3، ص: 25. الناصري، الاستقصا في أخبار دول المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري دار الكتاب البيضاء 1997. 1/205 بتصرف
([16]) محمد الامين الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان، د. ط، 1415 هـ – 1995 مـ، ج1، ص: 23
([17]) الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، د. ط، د.ت، ج1، ص: 101
([18]) مصطفى الكستلي، شرح العقائد النسفية للإمام التفتازاني، تح، طه عبد الرؤوف سعد، المكتبة الأزهرية للتراث، ط1، 2000، ص: 15
([19]) مصطفى بنحمزة، سلفية الأمة والتمثلات المغربية، درس حسني قدم سنة 1436هـ، منشور بموقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، http://www.habous.gov.ma/
([20])القشيري، الرسالة القشيرية، تح، عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة، د. ط. د.ت. ج2، ص: 572
([24]) أبو بكر محمد الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، دار الكتب العلمية – بيروت، د. ط د. ت، ص: 25
([25]) الشيخ زروق، قواعد التصوف، دار البيـروتي دمشق، طبعة1: سنة 1424هـ – 2004م، ص: 125
([26]) أبو بكر الطرطوشي، سراج الملوك، أوائل المطبوعات العربية – مصر، د. ط، 1289هـ، 1872م، ص: 48
([27]) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة، افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة- 13 أكتوبر 2017.
([28]) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة – 12 أكتوبر 2018
([29]) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس عيد العرش – 29 يوليوز 2019
([30]) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس عيد العرش – 29 يوليوز 2019
([33]) أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الثوابت الدينية للمملكة المغربية وجذورها في عمل السلف الصالح، درس حسني قدم يوم الثلاثاء 24 يوليوز2012 بالرباط، افتتاح الدروس الحسنية الرمضانية. موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. http://habous.gov.ma/
([34]) عبد الحميد العلمي، مهام إمارة المؤمنين الدينية والدنيوية في ضوء المقاصد الشرعية، بحث نشر يوم الإثنين 20 مايو 2019 بموقع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، https://www.fm6oa.org/
([35]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، ط1، جديدة مضبوطة منقحة، 1414 هـ – 1991 م، ج1، ص: 153
([37]) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة – 12أكتوبر 2018
([38]) اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التقرير العام للنموذج التنموي الجديد، نسخة أبريل 2021، ص: 40
([39]) الخطاب السامي لصاحب الجلالة، وجهه إلى الامة المغربية، مساء يوم الجمعة، 17 يونيو 2011
([40]) وزارة العدل، دستور المملكة المغربية 2011، إصدارات مركز الدراسات وأبحاث السياسة الجنائية، بمديرية الشؤون الجنائية والعفو، سلسلة نصوص قانونية، شتنبر 2011، العدد 19
([41]) التقرير العام للنموذج التنموي، ص: 40
([42]) مصطفى بنحمزة، سلفية الأمة والتمثلات المغربية، درس حسني قدم سنة 1436هـ، منشور بموقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، http://www.habous.gov.ma/
([43]) التقرير العام للنموذج التنموي، ص: 41 _ 42
([45]) الفصل 41 من دستور المملكة المغربية، مرجع سابق، ص: 28
([46]) الخطاب المالكي السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة ترؤسه لافتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بالقصر الملكي بفاس في 08 يوليوز 2005
([50]) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، بَابُ لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، رقم الحديث: 1429، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى…، رقم الحديث: 1033
([51]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب المرأة راعية في بيت زوجها، رقم الحديث: 5200
([52]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم الحديث: 52