د. إبراهيم أحمد مقري – جامعة بايرو كنو- نيجيريا.
الحمد لله ربّ العالمين حمدًا جامعا لسائر وجوه المحامد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛
فإن وحدة المسلمين التي حثّ عليها الكتاب والسنة لا تتأتى بدون قيادة رشيدة؛ فالحياة بدون قيادة فوضى، والسيادة لا تستقيم بدون نظام حكيم، وقد نصّت الشريعة على وجوب الإمامة واشترطت لها شروطا، واتفق الأئمة من أهل السنة والجماعة على وجوب نصب الإمام، وأنه يجب على الأمة الانقياد له، يُقيم فيهم شرع الله سبحانه وتعالى، ويسوس حياتهم وفق تعاليم الشريعة السمحة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يمكن اجتماع الأمة تحت كلمةٍ واحدةٍ. وقد دلَّت الأدلة على وجوب البيعة للإمام، والتحذير من الخروج عليه، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: “من مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهليةً”[1].
وللإمام صفاتٌ ومؤهِّلات صرّح بها الأئمة من العدالة والعقل والحُرّيّة وغير ذلك، ولكن أخصُّها بالتمييز هو النسب القرشي الذي يفتقده الكثير من مُدّعي الخلافة النبوية، وهو أمرٌ قد أثبتته شواهدُ السُّنّة الصحيحة، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفقِ عليه “لا يزالُ هذا الأمرُ في قريشٍ ما بقي منهم اثنان”[2] وقد ذهب أهل السنة قاطبةً إلى العمل بهذا الحديث واشتراط النسب القرشي في الإمام، كما قال الإمام مالك رحمه الله: “ولا يكون –أي الإمام- إلا قرشيا، وغيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام”[3].
وإن عناية المغرب بإفريقيا لتتجذر بعيدا لتعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، فجاء الإسلام ونشّطها وأعطى لها معنى رُوحيًّا ساميًا، فلم تعد العلاقة مبنية على الأسس الجغرافية، وإنما على ثوابت دينية وثقافية مشتركة، تتمثّل في التبادل والتفاعل الإيحابي أخذًا وعطاءً، وما أن اكتَشفت إفريقيا عبقريةَ المغرب في ريادة العلوم والثقافة والدين حتى بايعت له وأسلمت الكثير من دويلاتها وممالكها أمر دينها ودنياها لإمارة المؤمنين، وأخذت إفريقيا علومَ الإسلام ومنهجَ التعليم عن المغرب، وامتزج الشعبان ليتمخض عن ذلك وجود حضارة مغربية إفريقية متميزة بالأشعرية عقيدةً، والمالكية مذهبًا، والتصوف سلوكا، وهلم جرا.
وكانت إمارة المؤمنين منذ تـأسست بالمغرب تُربّي هذه العلاقة وتُنمِّيها بكل السبل، فتراها حينا تعزِّز أواصر العلاقة الروحية التي تربط المغرب بالدول الإفريقية عن طريق توسعة المشاريع الدعوية ونشر التصوف السني في أنحاء القارة، كما تُولي العلومَ والثقافةَ أهميةً كبرى في تنمية الشعب الإفريقي باستقبال البعثات المتلاحقة للعلماء المغاربة للتعليم، وتمتدّ يدُ إمارةِ المؤمنين الحانية -لواجب الخلافة الشرعية التي أنيط بها سلالة بيت النبوة للذود عن حمى الإسلام. وهذا يجعلنا نجد عبارة المغفور له الملك الحسن الثاني في الصميم عندما يقول بأن المغرب “يُشبه شجرةً تمتدُّ جذورها المغذية امتدادا عميقا في التراب الإفريقي، وتتنفّس بفضل أوراقها التي يُقوِّيها النسيمُ الأوربي”[4].
وسوف أتناول هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور:
الأول: الأبعاد التحكيمية والمرجعية لإمارة المؤمنين: ويتعرض لما تمثله إمارة المؤمنين من مرجعية للمسلمين في إفريقيا، ودفاعها عنهم، وعن مصالحهم الدينية، وكذلك يتعرض لدورها التحكيمي عبر التاريخ.
الثاني: الأبعاد الروحية لإمارة المؤمنين في السياق الإفريقي: ويتطرق إلى الروابط الروحية من خلال مدارس التصوف والخطط الدينية كالخطب والدعاء لأمراء المؤمنين عبر التاريخ الإفريقي.
الثالث: الأبعاد العلمية لإمارة المؤمنين في السياق الإفريقي: ويتطرق لعناية إمارة المؤمنين عبر التاريخ بالعلم والعلماء الأفارقة.
إن إمارة المؤمنين مسؤوليّةٌ شرعيةٌ ووراثةٌ نبوية جعلها الله في القرشيِّين الفضلاء الأخيار، وقد نهضت بهذا الواجب الشرعي الدولة العلوية الشريفة بعد أن رأت تمزُّق الأمة وشتاتها شذر مذر، ولم يبق لها سوى إمارة المؤمنين المغربية تقف شامخة على وجه أعداء الدين، مع ما تمتاز به عن غيرها بالنسب الهاشمي الشريف، ما يضفي لها شرعية وامتيازا على غيرها ممن يدعي ما تكذبه عليه شواهد السنة الصحيحة، هذا كله إلى جانب السياسة الرشيدة التي تقود بها العباد والبلاد.
وبصفتهم أمراء للمومنين يرى الملوكُ العلويون الدفاعَ عن ديار الإسلام وحفظ مقدَّرات المسلمين وأراضيهم واجبًا شرعيًّا، كما كانوا يرون ضرورة حمل المسلمين على الوحدة والاجتماع تحت لواءٍ واحدٍ مرة باللين ومرة بالشدة في مراقبة تامة للضوابط الشرعية في كلتا الحالتين، وكانوا كذلك يرون ضرورة النظر في مصالحهم الدينية والدنيوية، ويُعبِّر عن ذلك صاحبُ الجلالة المغفورُ له الملك الحسن الثاني طيّب الله ثراه يقوله: “وهذه البيعة تُلزمني وتلزمك، وتضع على كاهلك وعلى كاهلي أعباء وواجباتٍ لم يكتف القدرُ بأن نقول بها، ونصيح بها، بل أرادت ألطاف الله ونعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى علينا ولله الحمد على أن يبوح العالمُ كله، وأن تعترف بها الدوائرُ السياسية العالمية”[5].
وقد أسرعت الشعوبُ منذ فجر تاريخ التعانق المغربي الإفريقي إلى مبايعة إمارة المؤمنين المغربية والانضواء تحت لوائها، بيعةً تخوّل لها “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها”.[6]
ومن أقدم تلك البيعات بيعة الإمبراطورُ إدريسُ الثالث ملك مملكة كانم برنو 1582م، وقد كُتِبَتِ البيعةُ بفاس ونُقِلت إلى انجمينا (عاصمة كانم برنو وقتذاك) وأَشْهدَ الامبراطورُ على نفسه وعلى أتباعه بمنطوقها وتبعاتها، وجاء في نص البيعة الطويل: “تدارك الله سبحانه الوُجودَ، وأعزَّ العالمَ الموجودَ، واستطارت الأنوارُ المضيئةُ للأغوارِ والنُّجود، بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمارة الهاشمية العلوية، ففاضت على البسيطة أنوارها، وارتفع إلى السما والفرقدين منارُها… مولانا أميرَ المؤمنين وخليفةَ الله في الأرضين، وسليلَ خاتم النبيّين، ووارثَ الأنبياء والمرسلين، المفترضةُ طاعتُه على جميع العالمين… أمير المؤمنين المنصور بالله أبو العباس… فإنه إمام الجماعة حقا، المستوفي شروطها، والوارث للخلافة النبوية، والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها…”[7]
وجرت مراسلات كثيرة بين أمراء المغرب وزعماء مملكة كِبِّي الواقعة حاليا في شمال نيجيريا والملوك العلويين التي تُفيد بالبيعة لهم بيعة شرعية، خلافة عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن صحراء شنقيط، وبين خناذيذها الكبار يأتي أحمد المصطفى الودّاني التشيتي، المعروف بابن طوير(ت1266ه-1850م)، يمدُّ يدَ البيعة للسلطان مولاي عبد الرحمن في القصر السلطاني بمراكش، وقال “يا سيدي، أخبرني شيخي قدس الله روحه، أنه في الحديث {من مات ولم يدخل تحت بيعة سلطانٍ مات ميتةً جاهلية}، والآن امدد يَدَك أبايعك على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.[8]
ثم تتوافد بعد ذلك رسائل البيعة من كل نواحي شنقيط وخارجها، وفي السياق يقدِّم إمامُ تندوف الشيخُ محمد بن المختار بن اللَّعْمَش الجكني (ت1285ه-1869) للسلطان محمد الرابع، وقد خاطبه فيها بقوله: “وقد بايعناك على السمع والطاعة، ولزوم السنة والجماعة، والتمسك بالدعوة ببقائها إلى قيام الساعة، في الرضى والسخط، والمكره والمنشط، والعسر واليسر، والقل والكثر، والشدة والرخاء، والسرّاء والضرَاء، على ما بويع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون… وهات يدك يُقبِّلها قرطاسي نائبا عني وعن ناسي”[9].
وما فتئت هذه الممالك التابعة لإمارة المؤمنين تدعو لأمراء المؤمنين فوق منابرهم وفي خلواتهم وفي سائر أعمالهم الدينية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مملكة سونغاي.
وخضوعا لواجب الخلافة النبوية في حفظ الرَّعيَّة والسعي في مصالحهم، ظلَّت إمارةُ المؤمنين تحوط إفريقيا المسلمة بعنايتها الكاملة من النواحي الدينية والدنيوية، عن طريق نشر العلم والثقافة وتعزيز الروابط الروحية، كما سيتضح في المحاور القادمة، وكان أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله يشير في مناسبات عديدة إلى متانة العلاقات المغربية الإفريقية، ويقول: “أما علاقتنا مع عمقنا الإفريقي الذي يشكل مجالا لفرص واعدة، فإننا حريصون على نهج مقاربة متجددة، قائمة على التضامن، ومبنية على تعزيز الأمن والاستقرار، خاصة في منطقة الساحل والصحراء، فضلا عن خلق شروط التنمية البشرية، تسهم بالنهوض بالإنسان الإفريقي طبقا لأهداف الألفية للتنمية”[10].
وعندما دبَّ النزاع والشقاق بين صفوف المسلمين بغرب إفريقيا، وعجزت الأسلحة عن كبح جماحها “عالج المغربُ المسألة داخليا بأدوات دينية من قبيل ترسيخ قيم الإسلام، ودعم التيارات الصوفية المحافظة، والتعايش مع المكوِّنات الإسلامية التي تعترف بإمارة المؤمنين ومستلزماتها السياسية والدستورية”[11] وهذا من جماليات السياسة الرشيدة لإمارة المؤمنين التي تقطع دابر الفساد عن طريق العلم والتربية، وبيان ذلك هو الحديث القادم.
إن الإسلام قد دخل إفريقيا صوفيًّا من أوَّل يومٍ بفضل الحركة المرابطية التي كان نظامُ الدولة فيها يقوم على أُسس روحية وإيمانية، ومن ثَمّ فإن العناية بالتصوف يعتبر عناية بهوية إفريقيا الروحية والثقافية، حيث “لم يخل مصدرٌ سودانيٌّ من تراجم وأحداث تُظْهرُ طبقةً من الناس بمظهر التبتُّل والتقشُّف والزُّهد، كما أنّ الحديث عن الربط والزوايا يتجلى في تلك المصادر بشكل لا يحمل على الشك بأن الحركة الصوفية في السودان سارت بنفس القوة التي عرفها المغرب”[12] والمغرب العربي يبني علاقاته دائما على مرتكزات روحية وثقافية، ويرى محقا بأن “أيّ مبادرة دولية يتمُّ التنسيق بشأنها دون إيلاء البُعد الثقافي والعقائدي الأهمية التي يستحقها، سيكون مصيره الفشل”.[13]
وإن المغرب دولةٌ أقيمت أركانُها على قواعد التصوف، وشُيِّد بنيانُها بلبنات الأخلاق والتزكية الروحية، فقد عُرف يوسفُ بن تاشفين بأخلاقه الكريمة وزهده وعزوفه عن الدنيا، ولم يكن يلبس من الثياب سوى الصوف، وفي دولة الموحِّدين أظهر يعقوبُ المنصور زُهدًا وتقشُّفًا فائقين، واستدعى إلى بلاده جماعةً من الصوفية الأخيار، وكان لا يخرج إلى الجهاد إلا معهم، ولعظيم عنايته بالتصوف زَعَمَ ابنُ بطوطة وابن خَلِّكان أنه ترهْبَنَ وانخلع من الملك. وعلى إثر سلفها سعت الدولة المرينية في الاعتناء بالتصوف والصوفية، من أمثال الأمير أبي محمد عبد الحق، والأمير أبي يوسف الذي بنى الزوايا في الفلوات وأوقف عليها الأوقاف لخدمة عابري السبيل، وقُل مثل ذلك عن أبي الحسن المريني والسلطان عبد الله الغالب، وهكذا.. وهكذا.. ذيول الكثرة.[14]
وقد قامت زوايا لبعض الطرق الصوفية بعضها مشرقية المنشأ مثل القادرية والرِّفاعية، لكنها انحدرت جميعا إلى إفريقيا عبر المداخل المغربية بعد أن اصطبغت بالصبغة المغربية، ثم انتشرت في إفريقيا، فالطريقة القادرية مثلا انتشرت بفضل الشيوخ الكنتيين “الذين أقامت أسرتهم فترةً بمنطقة توات ثم تعمقوا في قلب الصحراء ومناطق السودان الغربي”. ويرى البعض بأن الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي هو أول من أدخل الطريقة القادرية في غرب إفريقيا، فالمجاهِدُ الكبيرُ عثمانُ بن فودي مؤسِّسُ الدولة الإسلامية الفودية، تتصل سلسلةُ إسناده في الطريقة القادرية بالشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي.
لكن التطور الحقيقي للعلاقة الروحية بين المغرب وإفريقيا إنما بدأ مع قيام الزاوية التجانية في فاس على يد مؤسِّسها مولانا أبي العباس الشيخ أحمد بن محمد التجاني، الذي بذل المولى سليمان كلَّ تالدٍ وطريفٍ لتيسير واجب الدعوة له في ربوع القارة، حتى عمّ طريقُه جنوبَ الصحراء، وظلَّ أتباعُ هذه الطريقة محتفظين بالولاء الكامل لهذه الدولة العلوية السنية، وصارت زواياها امتدادات روحيّة لهذه الدولة، فلا تسأل عن الولاء والحب وخالص الدعوات في الخلوات الجلوات في جميع أوقات العبادة والأذكار.
ولا يزال التجانيّون يُؤدون واجب هذا الولاء الروحي للدولة العلوية الكريمة، ومن أنصع صور هذا الوفاء التجاني أن الشيخ إبراهيم انياس الكولخي التجاني كان من بين القلة الذين بادروا بزيارة المغفور له الملك محمد الخامس في منفاه بمدغشقر عندما نفاه المحتل.[15] ولم لا والولاء التجاني لن يكتمل شكلا ومضمونا بدون العهد العلوي الشريف، حيث كان المغفور له المولى سليمان هو الذي آوى سيِّدَنا الشيخ أحمد التجاني وعزّره ونصره حتى انتشر النور الذي كان معه، وقد أكَّد لهذه البيعة والولاء جماعةٌ من الشيوخ والمقدَّمين التجانيِّين في الجمع الأخير للمنتسبين إلى الطريقة التجانية الذي انعقد بفاس عام 2007م حيث أشادوا بالدور الذي تقوم به إمارةُ المؤمنين بالمغرب في تمتين الروابط الروحية بين المغرب وإفريقيا، وجدّدوا بيعتهم لإمارة المؤمنين وأقرّوا باتخاذهم مدينة فاس العاصمة الروحية والثقافية لهم أينما كانوا.[16]
وقد أسَّس الحاجُ عمر الفوتي حركةً تجانيةً إصلاحيةً تقوم على العلم والتربية والإصلاح، وخلفه ابنه إبراهيم الذي درس بمراكش واشتغل بالعلم فيها كمُدرِّس، واتخذ بيته منتدًى للوزراء والعلماء، وكان يذهب مذهب المتصوفة على طريقة ابن عربي الحاتمي، ويُعَدُّ في المغرب من أعلام الطريقة التجانية.
وعلى كل، فإن إفريقيا وصحراءها قد وجدتا في الثنائية السنية أي الدولة العلوية والطريقة التجانية خير مزيج لنشر الفكر الإسلامي ومعالم السنة المحمدية فاكتسب المغرب بذلك عن حق صيتا جعل من الملوك العلويين رُوَّادَ الوحدة الإسلامية من المتوسط إلى النيجر.
ومن ناحية أخرى نرى الأمراء الغانيين وقد “اعتنقوا الإسلام وانضووا تحت الإمارة المرابطية مع أتباعهم من السراكولي والوانغارا والديولا والمانديغا، وأصبحوا يقومون نيابة عن المرابطين بحملات لنشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية من البهل والموسى”[17] ولا يخفاك أن نشر الإسلام عند المرابطين وسائر أصحاب السلطة المغربية ينبني على الترغيب لا الترهيب، وفي الغالب على البيان لا على السنان.
وليس يخفاك ما تقوم به إمارة المؤمنين تحت حكم العلويين الأشراف من بناء الجوامع والمساجد في بعض عواصم غرب إفريقيا، كما فعلت في نواكشوط، وداكار، وباماكو، وسعيها الحثيث لترسيخ قيم المذهب المالكي، والعقيدة السنية اللذين تشرّبا بروح المغرب الصوفية، في البلدان الإفريقية كما سيأتي تفصيله في المحور القادم.
إن الأسرة العلوية الشريفة مشهورةٌ باهتمامها البالغ بنشر العلم وتكريم العلماء، مما جعلها قبلة المسلمين العلمية طلابا وعلماء، فلجأ إليها الكثير من العلماء الشوام والمصريين والحجازيين حين أثخنت بلادهم الحروبُ المتتالية من التتار والصليب وغيرهما.
وكأن القدر يُهيِّئها للريادة العلمية والثقافية فقامت السيدة فاطمة أم البنين بنت محمد بن عبد الله الفهري ببناء أقدم جامعة على وجه الأرض وهي جامعة القرويين عام 245ه، الجامعة التي غدت مدينةُ فاس بفضلها مصدرَ إلهام إفريقيا، ومصنعَ قادتها الكبار، حتى قال عنها باديا لابليش المعروف بعلي باي العباسي: “إن مدينة فاس هي في إفريقيا أشبه بأثينا (عاصمة الفكر) في أوربا”[18]، وقد رحل إليها المشارقة قبل المغاربة، فلا تسأل إذن عن قائمة أسماء القادة الأفارقة الذين نهلوا من معينها وكرعوا من غدرانها الفائضة ليعودوا إلى بلدانهم شعلة نور تضيء الآفاق، فتلك قائمة تمتد مدّ البصر.
وقد تجاوزت العلاقة المغربية الإفريقية في المجال العلمي مجرد الأخذ إلى التثاقف التام بكلِّ ما تحمله الكلمة من أبعاد تفاعل عناصر وجود الإنسان، ويتجلى تأثير المغرب القوي على إفريقيا في هذا المجال من خلال المذهب المالكي الذي انتشر في غرب إفريقيا ولا يزال يتمتع بوجوده القوي متحديا جميع الأعاصير التي تحاول زعزعته عن مراسه، وقد أورد المرحوم الأستاذ إبراهيم الكتاني في مقدمة تحقيق فتح الشكور للولاتي قائمة طويلة بأسماء الكتب المغربية التي يتخرج عليها طلاب العلم في السودان الغربي جميعه.
وأما المنهج المتَّبع في التعليم فقد رسمه العلماءُ المغاربة، ولا تزال جميعُ المعاهد العلمية العتيقة تتبناه “منذ الدخول إلى الكُتّاب والبدء في حفظ القرآن على رواية ورش إلى تعلم الكتابة بالخط المغربي المعروف المتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه، ثم يستقل الطالب لحفظ المتون العلمية الفقهية واللغوية والأدبية، وهذا التأثير أحيانا ما يكون مباشرا عن طريق الاحتكاك الفعلي بالعلماء المغاربة الذين لم ينقطع ورودهم على هذه الأقطار للإفادة، وقد يكون أحيانا غير مباشر عن طريق الكتب والمؤلفات المغربية التي انتشرت واشتهرت في إفريقيا وأصبحت المصادر المعتمدة والمعوَّل عليها”.
وعن ممالك جنوب الساحل وجميع الوافدين الأفارقة إلى المغرب، يقوم الشاعرُ الكانمي الكبيرُ إبراهيمُ بن يعقوب (ت 609هـ) أقدمُ الوافدين الأفارقة بالإطلاق ورودا على المعاهد المغربية فيما يحفظ التاريخ، يؤشر بالولاء الذي تكنه إفريقيا للمغرب، قال:
أزالَ حجابه عـنِّي فعـيني وقـرَّبني تفضُّـلـه.. لكن |
تــراه من المهـابة في حجاب بعُدتُ مهابةً عند اقترابي |
وكان من جملة الزعماء الأفارقة الذين تلقّوا علومهم في المغرب الشيخُ محمد الأمين الكانمي الذي أقام في فاس سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان وبعد عودته إلى برنو قام بأدوار جليلة في نشر العلم، وقُلِّد منصبَ إمارة مملكة كانم برنو، واشتهر بعلمه وعدله وورعه وسفاراته إلى البلاد العربية ومساجلاته مع زعماء الممالك الإسلامية المتاخمة والبعيدة.
وإن المشاريع الدعوية والتنموية في إفريقيا لم تجد قطُّ يدًا أحنى ولا أدنى من إمارة المؤمنين تمهد لها الطريق وتسهل لها أعباء الدعوة التي تنوء بحملها أولو القوة، فأسّست الإمارةُ رابطةَ علماء المغرب والسنغال لينطوي بذلك البُعدُ الجغرافي ويتلاقح بذلك الشعبان ثقافة وفكرا وسلوكا.
وإن اهتمام إمارة المؤمنين بمشروع التنمية الإفريقية هو الذي حَرَّض وحثَّ العلماءَ المغاربةَ ويسَّر لهم سبل الرحلة إلى بلدان إفريقيا ليدخلوا فيها وينشروا العلم والثقافة والطريق، وفي هذا السياق أورد الدكتور محمد الغربي في كتابه قائمةً بعشرات الأسماء من العلماء المغاربة الذين دخلوا إفريقيا لغرض نشر العلم، جاء فيها الأستاذ محمد بن عبد الكريم المغيلي، وأبو القاسم التواتي، والشيخ محمد القوري من تلاميذ الشيخ أحمد زرُّوق الذي هاجرت عائلتُه إلى المغرب، وذاع صيتُه في العلم، وانتقل إلى إفريقيا ونشر العلم والتربية الصوفية، ومنهم القاضي عبد الله بن أحمد الزموني المؤرخ الكبير، وشارح كتاب الشفا، وقد تتلمذ على يديه قاضي تمبكتو وعدد كبير من علماء مالي، وأما عبد الرحمن القصري فقد أوغل في إفريقيا حتى دخل أرض كنو وكشنة النيجيريين وغيرهما، “وحدَّث بمحضر ملوكهم وأَجْلَوْه للتحدُّث على الفُرش الرفيعة ووصلوه الصلات الجزيلة من جَوارٍ وغيرها حتى وُلِد له من أهلها، وبعد جولته في بلاد الهوسا عاد إلى فاس وتقلّد منصب الإفتاء إلى أن توفي بها سنة 956هـ.[19]
وعموما فإن فضل إمارة المؤمنين على إفريقيا مما لا يحتاج إلى أن يساق بين سلاسل الشواهد وأغلال الأدلة، فلولاها لما “توارد على بلاد السودان عشرات العلماء من المغرب، واستقبلت جامعة القرويين الآلاف أيضا ممن لمع اسمهم في تاريخ البلدين، وازدهرت تجارة الكتب وحفلت خزائن مدن السودان بكل ما كان معروفا من كتبٍ في مختلف الفنون”[20].
وإذا كانت تمبكتو عاصمة الثقافة للمدن الإفريقية، فإن وراء ذيوع صيتها مركزان كانت شهرتهما لا تقل عن شهرة جامعتي القرويين والزيتونة في فاس وتونس، وهما جامعتا سنكري أو سنكوري وسيدي يحيى في تمبكتو. فالمركز الأول من حصيلة العلماء المغاربة الذين وفدوا إلى الديار الإفريقية لغرض الإفادة ودرسوا فيها كما سبقت الإشارة إليه، وأما المركز الآخر فهو لسيدي يحيى، وهو عالمٌ مغربي من سوس، بنى المسجد وأنشأ فيه حلقاتٍ علمية يقصدها الكثير من الطلبة والعلماء، وعندما توفي دفن بجوار المسجد.
وقد اعتمد العلامة الشيخ عثمان بن فودي على مؤلَّفات الإمام المغيلي في تنظيم شؤون إمارته إداريا وسياسيا وتدبير شؤون الحكم والجهاد، وقبل ذلك في التنظير للأسس الفكرية التي قامت عليها الدولة الفودية، لدرجة أن بعض الدارسين يرون بأن الشيخ عثمان لم يتأثر بشخصية واحدة تأثره بالمغيلي، وهذا جليٌّ في كل ما ألّف وخلّف، وقد تتبع أحدُ الباحثين المغاربة مصادرَ الشيخ عثمان بن فودي من مؤلَّفاته التي تربو على مائة فوجدها جميعا مصادر مغربية إلا في النزر اليسير.
وإذا كان مُؤَلَّف واحد يُستأثر دون غيره بتوجيه الحركة الفودية الإصلاحية فلا شكَّ أن ذلك الكتاب هو المدخل لابن الحاج العبدري الفاسي، الكتاب الاجتماعي التربوي الذي وصف فيه صاحبه كثيرا من أوضاع المجتمع الإسلامي، وما كان عليه أهل زمانه من البدع والانحرافات، واهتم فيه بمعالجة سلوك المسلم في حياته اليومية. حتى لقد بلغ اهتمام الشيخ عثمان بن فودي بالمدخل إلى اختصاره في كتاب سماه “لباب المدخل” ثم الحذو على منواله بكتاب آخر سماه “إحياء السنة وإخماد البدعة”.
وتمتد يدُ العناية المغربية بعد عهود وعهود ليؤسس الملك الحسن الثاني “معهد الدراسات الإفريقية بجامعة الملك محمد الخامس حتى لا يبقى التراث الإفريقي خاملا بين رفوف المكتبات، ولكن يُدرَس ويعاد قراءته وتنزيله، ثم يأتي صاحب الجلالة أمير المؤمنين الملك محمد السادس حفظه الله بمبادرة غير مسبوقة في نوعها لمكافحة التشدد والإرهاب بين صفوف المسلمين في إفريقيا فيؤسس معهد الملك محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدات.
وليس يخفى على ذي بصر مدى عناية إمارة المؤمنين في الوقت الراهن بتكوين العلماء في البلدان الإفريقية، حيث كانت تستقبل كل عام “منذ أزيد من نصف قرن آلاف الشباب من البلدان الإفريقية للتكوين في مختلف التخصصات العلمية والتقنية، ولم يكن أحد قبل أزمة الهوية الدينية القائمة اليوم، وتهديد الإرهاب، يفكر في التكوين في مجال الإمامة.[21]
لقد اتضح فيما سبق أن الثوابت الدينية من آكد المقاصد الضرورية الواجبة حفظها إقامة واستدامة بإجماع علماء الشريعة الغراء، وكانت الإمامة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيقها والتمكن من حراسة الدين ورعاية مصالح المسلمين، كما ظهرت جليا المكانة المرجعية والتحكيمية التي تمثله إمارة المؤمنين للمسلمين عامة وللأفارقة خاصة في المناحي الدينية والثقافية والحضارية.
وقد تحملت إمارة المؤمنين مسؤوليتها الشرعية هذه عبر التاريخ فمدت جسر التواصل لينحدر علمها وثقافتها وروحها الطيب إلى إفريقيا، وانبثق عن ذلك الإشعاع الروحي والثقافي وعم التسامح والوسطية، وبزغ الربيع العلمي الزاهر في جميع القارة.
وإن الهوية الدينية لإفريقيا الآن لا يمكن تشخيصها بعيدا عن العناصر المغربية التي غذت من لبانها الطاهرة حتى ربت وأنبتت، فالعقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني هي مكونات الجسد الإفريقي المسلم، وهي من جملة ما سخرت إمارة المؤمنين نفسها لنشره في العالم.
[1] – صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، ح: 1851 ج: 3 ص: 1478.
[2]– صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الأمراء من قريش، ج: 13 ص: 114 فتح الباري، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخلافة في قريش، ح: 1820 (3/1452).
[3] – أحكام القرآن، لاين العربي المالكي/ ج: 4 ص: 1721.
[4] – محددات السياسة الخارجية المغربية تجاه الدول الإفريقية وجنوب الصحراء، مقالة منشورة بمجلة سياسات عربية، للكاتب يحي بولحية، العدد 10 أيلول/سبتمبر، 2014م، ص: 73)
[5] – البيعة وأثرها في الاستقرار وربط أواصر المحبة وتجديد العهد بين شمال المغرب وجنوبه، للأستاذ محمد كنون الحسني، مقالة منشورة بمجلة دعوة الحق، العدد 397 شعبان 1431ه، يوليو 2010
[6] – المقدمة للعلامة عبد الرحمن ابن خلدون، ص: 190 الطبعة الرابعة 1398هـ، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة.
[7] – انظر نص البيعة كاملة في مناهل الصفا لأبي فارس عبد العزيز الفشتالي، من مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص: 69.
[8] – البيعة وأثرها في الاستقرار، مرجع سابق.
[9] – المرجع السابق.
[10] – مقتطف من خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى الثانية لعيد العرش، طنجة 30/7/2001م.
[11]– محددات السياسة الخارجية، ص: 82.
[12]– بداية الحكم المغربي للسودان الغربي، د. محمد الغربي، مؤسسة الفليج للطباعة والنشر، الصفا- الكويت ص: 559.
[13] – من نص الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس في حفل تنصيب رئيس مالي الجديد في باماكو 19/9/2013م.
[14]– انظر معطيات الحضارة المغربية، عبد العزيز بن عبد الله، الطبعة الثالثة، دار الكتب العربية، ج: 1، ص: 162-164
[15]– السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف المغربية في خطاب ألقاه في الدورة الثالثة والأربعين لأكاديمية المملكة المغربية يوم 10 ديسمبر 2015م.
[16]– وكالة المغرب العربي للأنباء تحت عنوان “التجانية لعبت دورا متميزا في تمتين الروابط الروحية الخاصة بين المغرب وإفريقيا عام 2007م.
[17]– بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، ص: 40.
[18] – انظر معطيات الحضارة المغربية ص: 119-121
[19]– انظر كتاب بداية الحكم المغربي للسودان الغربي ص: 514-518
[20]– بداية الحكم المغربي للسودان الغربي ص: 514
[21] – أحمد التوفيق، في الخطاب المذكور سابقا