في إطار جهود وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المحمودة في نشر وتدعيم التراث الصوفي بالمغرب وعلى هامش: ندوة الطرق الصوفية بالمغرب “دورة الطريقة التيجانية” ارتأيت أن أساهم بهذا البحث المتواضع في التعريف بالتصوف عموما والتصوف المغربي خصوصا.
والحديث عن التصوف المغربي هو حديث طويل له ذيول كثيرة ونواح متعددة، والاستفاضة فيه تقتضي وقتا طويلا ومراجع كثيرة ودراسة حقب طويلة من تاريخ المغرب، والإلمام بتراجم شخصيات عديدة لا يكفي فيها بحث أو عرض كهذا، فضلا عن إعواز المراجع اللازمة لهذا البحث، وأكثرها لا يزال مخطوطا، وحتى المطبوع منها أصبح نادرا يعز الحصول عليه. ومع هذا وذاك وعملا بالقاعدة المعروفة “ما لا يدرك كله لا يترك جله” فإني آمل بحول الله أن أعطي نظرة موجزة ومصغرة عن أثر التصوف المغربي في نشر العلم والمعرفة والدعوة إلى الله والتمسك بأخلاق الإسلام وآدابه، وبث روح المقاومة والجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، وكيف اضطلع أهله بمهمة الدفاع عن البلاد حتى انحصرت فيهم في حقب من تاريخ المغرب، ومن ثم جاء هذا العنوان المقتضب: إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه.
ولعله من المفيد قبل الكلام عن التصوف في المغرب أن نعرف بالتصوف وحقيقته وموضوعه.
إن العلماء اختلفوا كثيرا وطويلا في تعريف التصوف، وصعب على الباحثين إيجاد تعريف له –جامع مانع– كما يقول المناطقة. ذلك أن التصوف ليس مذهبا قائما على حدود ضيقة أو أصول أو قواعد محدودة، شأن المذاهب الفقهية والكلامية مثلا، ولا هو علم ذو حدود خاصة وموضوعات معينة، يمكن اكتسابه بمجرد الاطلاع عليها والإلمام بها. وإنما هو قبل كل شيء سلوك ومعاملة وزهد وعبادة، وعزوف عن الدنيا وإقبال على الله، وهو بالتالي ثمرة الإخلاص في العبادة والمجاهدة في الله ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ (1)، واسترواح إلى الخواطر الربانية والإشراقات النورانية.
والطرق إليه بهذا المعنى كثيرة ومتعددة، فأي طريق سلك بك هذه الغاية وتحققت معه ثمرة العبادة والمجاهدة قيل فيه تصوف. ولما كانت هذه الطرق لا تنحصر حتى قال بعضهم: “إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس بني آدم”. اختلفت أنظار الصوفية أنفسهم في تعريف التصوف وحقيقته، فعرف كل واحد منهم الطريق التي رأى أنها أقرب في الوصول إلى الله، وقد أوصل أبو نعيم في الحلية ما قيل في التصوف إلى ألف قول وتعريف، وأعقب كل ترجمة في كتابه بتعريف يناسب حال المترجم له وسلوكه، قائلا عقب كل ترجمة: “وقد قيل: التصوف كذا وكذا مما ينطبق على أحوال صاحبها”. وهذا الاختلاف في الواقع ليس اختلاف تضاد يوجب سقوطها من الاعتبار، وإنما هو اختلاف في حال، ودليل على شمول التصوف لكل ما قيل فيه، فهو إلى تعدد الأسماء أقرب، ودليل على شرفه وأنه من السعة والشمول بحيث لا يحصره حد، ولا يجمعه تعريف، وهذا هو سر نسبة الصوفية إلى شعارهم الظاهر، وهو لبس الصوف دون نسبتهم إلى ما اختصوا به من الكلام عن الأحوال والمقامات والمجاهدات، وكان الأولى أن ينسبوا إليها. كما نسب الفقهاء إلى ما اختصوا به من الأحكام، والمحدثون إلى الحديث، والمؤرخون إلى التاريخ والأدباء إلى الأدب، وهكذا…”.
وفي هذا المعنى يقول أبو نصر الطوسي: “فإن سأل سائل فقال: وقد نسب أصحاب الحديث إلى الحديث والفقهاء إلى الفقه، فلم قلت: الصوفية، ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم، ولم تضف إليهم حالا كما أضفت الزهد إلى الزهاد والتوكل إلى المتوكلين والصبر إلى الصابرين؟ فيقال له: لأن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم، وذلك لأنهم معدن جميع العلوم ومحل جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة سالفا ومستأنفا، وهم مع الله في الانتقال من حال إلى حال، مستجلبين للزيادة، فلما كانوا في الحقيقة كذلك لم يكونوا مستحقين اسما دون اسم، فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علم، لأني لو أضفت إليهم في كل وقت حالا، هو ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال، والأخلاق والأعمال، وسميتهم بذلك، لكان يلزم أن أسميهم في كل وقت باسم آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالا دون حال حسبما يكون الأغلب عليهم، فلما لم يكن ذلك نسبتهم إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك مجملا عاما، مخبرا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق والأحوال الشريفة المحمودة”(2). وهو كلام نفيس، ومع كل هذه الأقوال التي تبلغ الألف أو تزيد والتي يصعب تتبعها لا بأس بذكر بعضها كنموذج لما قيل في التصوف وعرف به، وللتأكد من أن الاختلاف إنما هو في أهم الأسس التي ينبني عليها التصوف ويقوم على ملاحظتها والتخلق بها، فعبر كل واحد عما رآه أولى وأنسب أو أهم وأشمل. فمن هذه الأقوال والتعريفات:
– التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة.
– التصوف، الجد في السلوك إلى ملك الملوك.
– التصوف، الموافقة للحق والمفارقة للخلق.
– التصوف، ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضلية.
– التصوف، حفظ الوفاء وترك الجفاء.
– التصوف، ألا تملك شيئا ولا يملكك شيء.
– التصوف، استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.
– التصوف،… إلخ.
أما الجنيد رحمة الله عليه، فعرفه بقوله: “التصوف تصفية القلوب عن موافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية ومجانبة الدواعي النفسية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة”. (3)
قال العم عبد الله بن الصديق: “ولعل هذا التعريف من أشمل وأوفى ما عرف به التصوف، لأنه تضمن الأسس العامة التي بني عليها، ولا عجب فهو صادر عن الجنيد إمام الطائفة ورئيس الطريقة التي عرفت بها وإليه تنسب”. (4)
ومهما قيل في حقيقة التصوف واختلف في تعريفه، فقد أصبح متميزا بمنهاجه وطرقه وموضوعاته وأبحاثه وكتبه ورجالاته…
وكما اختلف العلماء في حقيقة التصوف وتعريفه اختلفوا في لفظة “الصوفي” وفي أصلها، فقيل: نسبة إلى الصف الأول لما كان شأن أصحابه التزام الصف الأول؛ أي في الصلاة. وقيل إنها نسبة إلى الصفة أي الحميدة أو الصفاء، وأن الأصل فيها صفوي على القياس ثم عدل عنها إلى الصوفي تخفيفا. وقيل إنها نسبة إلى الصُّـفّة وهي موضع مظلل في آخر المسجد النبوي كان يأوي إليه فقراء الصحابة والمنقطعين منهم للعبادة. وقيل إنها نسبة إلى رجل اسمه صوفة أو إلى كلمة “سوفيا” اليونانية بمعنى الحكمة. والأقرب إلى الاشتقاق والواقع أنها نسبة إلى الصوف لما كان الصوف هو اللباس الغالب عليهم لأنه يدل على الزهد والخشونة، ولأنه كان لباس الأنبياء والصديقين وشعار المساكين، كما قال غير واحد منهم.
والظاهر أن أول استعماله كلقب على الزهد والعبادة كان في القرن الثاني، ويقال: إن أول من أطلق عليه لقب صوفي هو أبو هاشم الكوفي المتوفى سنة 150 هـ. (5)
على أن الطوسي نقل عن الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ أنه قال: “رأيت صوفيا في الطوائف فأعطيته شيئا فلم يأخذه، وقال: معي أربعة دوانيق، فيكفيني ما معي”. بل نقل عن ابن إسحاق في أخبار مكة ما يفيد أن هذا اللفظ كان معروفا قبل الإسلام وأنهم كانوا يطلقونه على أهل الصلاح. (6)
ومما تقدم يظهر لنا جليا أن التصوف من صميم علوم الدين، وأنه غير دخيل كما يدعيه بعضهم، بل هو من مشمولات حديث جبريل – عليه السلام – الشهير الذي تضمن علوم الدين الثلاثة وهي: التوحيد والفقه والتصوف، الذي هو شرح لمعنى الإحسان كما جاء في حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه (7) قال: “فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك…” إلى أن قال: “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”. فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من الإيمان الذي هو موضوع العقائد، والإسلام الذي هو موضوع الفقه والعبادات، والإحسان الذي هو موضوع التصوف دينا.
وحين أخذ المسلمون يشتغلون بالتأليف والتدوين، انشغلت طائفة منهم ببيان أركان الإيمان والعقيدة، فأطلق عليهم علماء التوحيد والكلام. وانشغلت طائفة أخرى ببيان أركان الإسلام وقواعده فسموا الفقهاء. بينما انشغلت أقوام ببيان مقام الإحسان والطرق الموصلة إليه، فلقبوا بالصوفية، وهكذا يكون التصوف في أصله من صميم الدين وعلومه.
قال الطوسي: “وجملة علوم الدين لا تخرج عن ثلاث: آيات من كتاب الله عز وجل، أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حكمة مستنبطة خطرت على قلب ولي من أولياء الله. وأصل ذلك حديث الإيمان حيث سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن أصول ثلاثة: عن الإيمان والإسلام (…) والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وصدقه على ذلك جبريل ثم قال: والعلم مقرون بالعمل، والعمل مقرون بالإخلاص، والإخلاص أن يريد العبد بعلمه وعمله وجه الله. وهؤلاء الأصناف الثلاثة في العلم والعمل متفاوتون، وفي مقاصدهم ودرجاتهم متفاضلون…” (8). إلى أن قال: “فكل من أشكل عليه أصل من أصول الدين وفروعه وحقائقه وحدوده وأحكامه ظاهرا أو باطنا فلابد له من الرجوع إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة: أصحاب الحديث والفقهاء والصوفية” (9). وفي هذا المعنى قال الجد رحمه الله في جواب له عن أول من أسس طريق التصوف: “وأما أول من أسس الطريقة وهل كان تأسيسها بوحي؟ فاعلم أن الطريقة أسسها الوحي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بينها واحدا واحدا، دينا، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان.
فالدين كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك؛ لتركه ركنا من أركانه. ولهذا نص المحققون على وجوب اتباع طريق التصوف وجوبا عينيا، واستدلوا على ذلك بما هو ظاهر عقلا ونقلا… إلى أن قال في جواب هل كان الصحابة صوفية؟ جواب هذا يعلم مما قبله، فإن الطريقة إن كانت من الدين، بل هي أشرف أركانه، وكانت بوحي كما قلنا، وكان الصحابة بالحالة التي بلغتنا عنهم تواترا، من المسارعة إلى الامتثال لأمر الله، كانوا بالضرورة أول داخل فيها، وعامل بمقتضاها وذائق لأسرارها وثمراتها، ولهذا كانوا على غاية ما يكون من الزهد في الدنيا والمجاهدة لأنفسهم ومحبة الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، والصبر والإيثار والرضا والتسليم وغير ذلك من الأخلاق التي يحبها الله ورسوله وتوصل إلى قربهما، وهي المعبر عنها بالتصوف والطريقة، وكما كانوا رضي الله عنهم على هذه الحالة كان أتباعهم أيضا عليها وإن كانوا دونهم، وكذلك أتباع الأتباع وهلم جرا… إلى أن ظهرت البدع وتأخرت الأعمال، وتنافس الناس في الدنيا، وحييت النفوس بعد موتها فتأخرت بذلك أنوار القلوب وكادت الحقائق تنقلب، وكان ابتداء ذلك في أواخر المائة الأولى من الهجرة. ولم يزل ذلك يزيد ويشتد سنة بعد أخرى إلى أن وصل إلى حالة تخوف منها السلف الصالح على الدين، فانتدب عند ذلك العلماء لحفظ الدين، فقامت طائفة منهم بحفظ مقام الإسلام وضبط فروعه وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإيمان وضبط أصوله وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإحسان وضبط أعماله وأحواله، فكان من الطائفة الأولى الأئمة الأربعة وأتباعهم، وكان من الطائفة الثانية الأشعري وأصحابه، وكان من الثالثة الجنيد وأشياخه وأصحابه، فعلى هذا ليس الجنيد هو المؤسس للطريقة وإنما نسب إليه لتصديه لحفظ قواعدها وأصولها ودعائه للعمل بذلك عندما ظهر التأخر عنها. ولهذا السبب نفسه نسبت العقائد إلى الأشعري، والفقه إلى الأئمة الأربعة وغيرهم، مع أن الجميع بوحي من الله تعالى”. (10) انتهى.
وقال ابن خلدون في المقدمة (11): “علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لا تزال عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة… إلى أن قال: وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة، إذن فالذي حدث هو الاسم، وتمييز المقبلين على العبادة باسم التصوف، أما النهج والطريقة فهي نفس ما كان عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم… إلى أن قال بعدما تكلم عن الأحوال والمقامات التي خاضوا فيها، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما ويترقى منها إلى غيرها. ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا على التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه، وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها، من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك. فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله، والكلام، والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة عبادة فقط. وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت، يعني أن نفس هذه العلوم ابتدأت أولا من طريق التلقي شفويا ثم دونت كما وقع في التصوف تماما”. انتهى بتصرف.
وإنما أكثرت من هذه النقول لتبيين حقيقة التصوف وأنه من صميم علوم الدين، وأن مصدره الأول كتاب الله وسنة رسوله، لا كما يزعم بعضهم متأثرا بآراء المستشرقين في أنه علم مبتدع في الدين ودخيل في الإسلام، وأنه متأثر بالمسيحية والأفلاطونية الحديثة وتصوف الهنود والبوذيين.
ويعجبني هنا ما قاله أحمد أمين في هذا الموضوع (12): ويحق لنا أن نتساءل هل وجود فكرة في إحدى الأمم، ثم وجودها بعد ذلك في المتصوفة دليل على أنها أخذت عنها؟ فإذا وجد الفناء في البوذية ثم وجدت فكرة الفناء في الصوفية، هل يكون هذا دليلا على أخذ الآخرين من الأولين؟ وقد يكون هذا نوعا من التفكير الذي يدعو إلى الشك لا الجزم، خصوصا وأن هناك موانع كثيرة من هذا الرأي، مثل من أن رابعة العدوية امرأة عربية لم يثبت لنا أنها تثقفت ثقافة أجنبية، وهي أول من تكلم في الحب الإلهي، فمن أين وصل إليها الحب النصراني؟ ثم إن الاتجاهات المتحدة والأمزجة المتحدة تنتج نتائج متحدة، قد لا نعجب بها إذا وجدنا النتائج العقلية متحدة في العالم، لأن عقول الناس في العالم متشابهة. وهي تسير على قوانين منطقية واحدة من مقدمات مشروطة بشروط وأنواع من القياس، أما العواطف فمختلفة كثيرة عند الناس، ومع ذلك لما اتحد الصوفيون في طريقة رياضة النفس والمجاهدة والأخذ عن المشايخ رأيناهم أيضا تقاربوا في النتائج، ورأينا الصوفي العراقي يفهم الصوفي الأندلسي والعكس، ومحيي الدين بن عربي الأندلسي استطاع أن يفهم الحلاج العراقي، وهكذا لا نستطيع أن نجزم بتسرب بعض العناصر المختلفة إلى التصوف.
وهو كما نرى حديث في غاية الوجاهة والنفاسة.
ومن كل ما سبق ندرك أن التصوف نشأ أول ما نشأ عبادة وزهدا، وإقبالا على الله، وأن ما يدعو إليه كان هو طريقة السلف الصالح عامة من الصحابة والتابعين وإن لم يعرفوا به ويختصوا بلقبه، إذ كان الشأن في كل مسلم في تلك العصور أن يكون متحليا به، متحققا بمقامه.
فكما لم يعرف الصحابة بالفقهاء والمحدثين والمفسرين، مع أنهم كانوا في الواقع فقهاء وأصحاب حديث ومفسرين ولغويين، فكذلك لم يعرفوا بالصوفية، وإنما عرفوا بالصحابة لأن شرف الصحبة التي خصوا بها، لا يعادله شيء في الفضل، قال الطوسي : “الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها حرمة، وتخصيص من شمله ذلك، فلا يجوز أن يطلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة، وذلك لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمته، ألا ترى أنهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء والراضين والصابرين والمخبتين، وغير ذلك، وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نسبوا إلى الصحبة التي هي أجل الأحوال استحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة التي هي أجل الأحوال”. (13)
(1) سورة العنكبوت، الآية: 69.
(2) انظر: اللمع ص (40-41)، ط. دار الكتب الحديثة بمصر.
(3) حسن التلطف في وجوب سلوك طريق التصوف، لعبد الله بن الصديق، ص 4، مطبعة السعادة مصر.
(4) المرجع السابق.
(5) من محاضرات للوالد حول التصوف وموقف الزوايا من الاستعمار.
(6) نفس المرجع السابق.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي، ج1، ص. 1571، ط 1، 1349هـ، المطبعة المصرية بالأزهر.
(8) اللمع، ص 22.
(9) المصدر نفسه، ص 23.
(10) التصور والتصديق في أخبار سيدي محمد بن الصديق، ص 71 و72، طبعة السعادة بمصر.
(11) المقدمة، ص 467-469، ط مصطفى عمر، مصر.
(12) ظهر الإسلام، 4/157، ط الثالثة، مطبعة لجنة التأليف والنشر، 1964.
(13) اللمع، ص 42.