شكل الجانب العقدي للأمة المغربية عبر تاريخها العريق ثابتا من ثوابتها الحضارية، ومعلما من معالم هويتها الثقافية. فقد ارتبطت العقيدة الأشعرية ارتباطا قويا وطويلا بتاريخ المغرب امتد ما يقارب عشرة قرون، لذا فإن الاهتمام اليوم بتاريخ هذه العقيدة بالمغرب وتطورها أضحى مطلبا علميا من شأنه أن يثير مجموعة من القضايا والإشكالات، عساه يكشف النقاب عن مكمن السر في تشبث المغاربة بهذا المذهب إلى يومنا هذا.
تشبث المغاربة بالعقيدة الأشعرية منذ أمد بعيد حتى أضحت ثابتا من ثوابتهم الدينية ومقوما من مقوماتهم الفكرية، وقد عبر عبد الواحد ابن عاشر (ت. 1040هـ) عن هذا المعنى في منظومته “المرشد المعين” بقوله:
في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك
إن تتبعنا لمختلف الأدبيات التي أرخت للفكر الأشعري بالمغرب يدلنا على أن هذا الفكر كان موجودا ومعروفا زمن المرابطين، ومن ذلك ما أورده محمد بن تاويت الطنجي في تقديمه لكتاب “ترتيب المدارك”[1]، إذ يقول عن المدرسة الأشعرية المغربية أيام المرابطين: “هذه المدرسة المغربية كانت على علم تام بالجدل والمناظرة وأصول الدين والكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري، وإن كتب الأشاعرة في علم الكلام كانت معروفة بين رجال المغرب يتدارسونها في كافة أنحاء المغرب…”. وقد أكد الناصري في “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” ما ذهب إليه ابن تاويت بقوله: “… وإن كان- أي المذهب الأشعري- قد ظهر في المغرب قبل ابن تومرت ظهورا ما…”[2].
وترجح بعض الدراسات أن يكون الفكر الأشعري قد دخل المغرب الأقصى مباشرة إلى مراكش زمن المرابطين، قبل أن ينتشر ويتوسع في مناطق أخرى من الغرب الإسلامي. وتدل بعض تلك الدراسات على أن أبا بكر المرادي الحضرمي (ت. 489هـ/ 1086م) هو أول من أدخل المذهب العقدي الأشعري إلى الغرب الإسلامي عموما، والمغرب خصوصا. إذ جاء في كتاب “الغنية” – وهو الكتاب الذي ترجم فيه القاضي عياض لشيوخه – أن الحسن المرادي الحضرمي هو أول من أدخل علم الاعتقاد إلى المغرب الأقصى. كما ينقل صاحب الغنية: “.. أن أبا الحجاج يوسف بن موسى الكلبي كان من المشتغلين بعلم الكلام، على مذهب الأشعرية بالمغرب، وقرأت عليه أرجوزته الصغرى في الاعتقاد… وهو من تلاميذ أبي بكر المرادي الحضرمي…”.
تدل مختلف الأدبيات التي أرخت للمذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، أن المذهب قد عرف في مراحله الأولى تمثلات فردية للمذهب لرجالات اختاروا العقيدة الأشعرية، والتزموا بمبادئها وأفكارها، إذ شهدت الفترة الممتدة من وفاة أبي الحسن الأشعري (ت. 324هـ) إلى بداية القرن السادس الهجري بروز نخبة من المفكرين المغاربة تشبعوا بالفكر الأشعري، واستقوه من ينابيعه الأولى قبل عودتهم إلى المغرب.
وإذا كان المرابطون لم يتبنوا المذهب الأشعري مذهبا رسميا للدولة، مما ضيق من أفق انتشار هذا المذهب في الأوساط العامة، لاعتبارات سياسية وتاريخية آنية، فإن ذات الأسباب -أعني الظرفية السياسية والتاريخية- ستكون وراء تشبث الموحدين بالعقيدة الأشعرية ومحاولة تثبيتها وجعلها مذهبا رسميا للدولة الموحدية.
لذلك عمل المنظرون في الدولة الموحدية على تثبيت دعائم هذا المذهب وترسيمه؛ فقاموا بمجهودات نظرية وأخرى أيديولوجية- سياسية لتقديمه للعامة والخاصة على حد سواء، وسخروا مختلف الآليات لذلك.
وضمن هذه السيرورة التاريخية، والتدافعات السياسية، فرض الفكر الأشعري نفسه موضوعا لنقاشات كلامية متقدمّة، على مستوى العرض والتحليل، وعلى مستوى الاحتجاج للمسائل العقدية… فبرز مفكرون كبار أدلوا بدلوهم في هذا الشأن من أمثال أبي الحجاج يوسف بن موسى الضرير، ومحمد بن تومرت، وأبي بكر بن العربي المعافري، وأبي عمرو عثمان السلالجي…
ومع تطور السجالات والمناقشات التي دارت رحاها بين أشاعرة الغرب الإسلامي وخاصة مع الفلاسفة منهم برزت في الأفق ظاهرة فكرية ارتبطت بحضور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي وشكلت أهم خاصية من خصائص المذهب الأشعري بالمغرب وميزة من مميزاته، وهي ظاهرة تصحيح أخطاء العامة في علم الكلام[3]…
وعبر هذه المراحل كان الفكر الأشعري المغربي يتأرجح بين حركتي المد والجزر، حسب الظرفية السياسية والتاريخية إلى حدود القرن الثامن الهجري، حيث سادت ظاهرة التقليد والركون إلى القديم سيما بعد سقوط الأندلس، إلى أن ظهر الإمام عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (ت. 832هـ) الذي دعا إلى تجديد الفكر الأشعري، وقاوم كل مظاهر التقليد والتبعية التي كانت سائدة آنذاك. فكان له دور بارز في تقريب المذهب الأشعري وإعادة بنائه في شروط حضارية ومعرفية متميزة، وألف لهذه الغاية عدة مصنفات أهمها: ” العقيدة الكبرى…”
وهكذا قَبِل أهل المغرب الفكر الأشعري، ودعموه بمختلف الوسائل والآليات التي كانت تحددها كل مرحلة من مراحل تطوره في هذه المنطقة، حتى أضحى المذهب ثابتا من ثوابت الأمة المغربية.
لعل الإشكال المركزي الذي يطرح نفسه في هذا المقام، هو طبيعة المناخ العام لاختيار أهل المغرب العقيدة الأشعرية، وصيرورة تشكل هذا المذهب في التربة المغربية، ومكمن السر في تشبث المغاربة بهذا المذهب إلى يومنا هذا؟ ثم ما هي نقاط القوة في هذا المذهب التي منحته القدرة على التكيف والاستمرارية؟
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في هذا الصدد، ومع أننا لا نزعم امتلاك أجوبة نهائية لها، فإننا سنحاول أن نثير مجموعة من القضايا حولها علها تساعدنا في كشف النقاب عن مكمن هذا السر ومصدر هذه القوة. وكذا مراحل تطوره فيها. وهو الأمر الذي لم تستطع جل الأدبيات الفكرية المعاصرة التي اهتمت بهذا الموضوع الإجابة عنه.
مما لا شك فيه، أن تتبعنا لمختلف الأطوار التاريخية التي مر بها هذا الفكر في هذه المنطقة بالذات سيكشف لنا الآليات والميكانيزمات التي كانت تحركه، وأوجه تميزه واستقلاليته عن المدرسة الأشعرية في المشرق، مما يكشف طبيعة العلاقة الجدلية القائمة بين هذا الفكر وخصوصية الواقع المغربي المميز، وملابساته التاريخية والاجتماعية والسياسية التي عرفها؛ سيما وأن الفكر الأشعري المغربي قد عرف قفزة نوعية، سواء من حيث تطورُه التاريخي، أو من حيث مضامينُه وثوابتُه، أو منهجيتُه.
هكذا وباستنطاقنا لكثير من الأدبيات التي أرخت للفكر الأشعري بمنطقة المغرب نجدها ترجعها إلى عوامل عدة لعل أبرزها:
منذ انفصال المغرب عن الخلافة العباسية سياسيا سنة (172هـ/ ق. 8م)، ظلت سمة الوحدة السياسية -وقد تكلم كثيرون على هذه الوحدة[4] السمة التي طبعت الجو السياسي العام بالمغرب… وقد اكتملت هذه الوحدة زمن الموحدين بعد الجهد الكبير الذي بذله الأدارسة والمرابطون قبلهم، فسعت الدولة الموحدية إلى محاربة الاتجاه العقدي السائد حينئذ، وترسيم الأشعرية مذهبا للدولة.
لذا فإن الطابع الوحدوي للمنطقة ونزوعها الدائم نحو الاتحاد والاستقلال ترابيا وسياسيا واجتماعيا بحكم طبائعها وتقاليدها وتراثها منح لها –أي للمنطقة- وحدة مذهبية وعقائدية وسلوكية.. أضف إلى ذلك أن منطقة الغرب الإسلامي عموما وبحكم بعدها عن المشرق جغرافيا كانت إلى حد ما أقل تأثرا بالصراعات الأيديولوجية والسياسية التي كانت سائدة آنذاك.
تميزت رؤية المغاربة للمذهب المالكي بشموليتها لكونها استوعبت منه قضاياه العقدية كما استوعبت منه قضايا الفقه العملي. فالمغاربة استهواهم المذهب المالكي لكونه مذهبا فقهيا وحسب، وإنما هو مذهب حرص منذ تأسيسه على يد الإمام مالك على إبراز مواقفه من كبرى القضايا العقدية المحورية، ولعله الأمر ذاته الذي حدد انتماءه إلى مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف ما دأب عليه كثير من الباحثين في اختزال المذهب المالكي ضمن المباحث الشرعية العملية، على اعتبار أن الفقه هو مجموع الأحكام الشرعية العملية أو الفرعية[5]، واستبعاد الأحكام العقدية أو الأحكام الأصلية التي يتناولها علم العقيدة أو علم التوحيد من المذهب الفقهي، مع أنه قد روي عن أبي حنيفة أنه جمع بعضها تحت تسمية: “الفقه الأكبر” في مقابل: “الفقه الأصغر” (الفقه العملي)[6].
أضف إلى ذلك اتصال مالكية المغرب بنظرائهم الأشاعرة في المشرق منذ زمن مبكر.
وارتباطا بالعامل السابق؛ درج الفقهاء المالكيون على أن يفتتحوا مؤلفاتهم الفقهية بذكر مبادئ العقيدة الأشعرية وأساسياتها، فصدروا بعض كتبهم بمباحث العقيدة، ونجد لذلك أمثلة واضحة في مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وفي مقدمة منظومة ابن عاشر، وفي كتاب الجامع من الذخيرة…
وهكذا أورد ابن أبي زيد القيرواني (ت. 386هـ) في مقدمة رسالته جملة من القضايا العقدية، والممحص لآرائه عند تحدثه عن العقائد السنية في هذه الفترة، يقف على بعض الآراء الأشعرية في عدد فقراتها والتي قصد بها المؤلف الرد على مذاهب الاعتزال والإرجاء والخارجية والشيعة على طريقة الأشاعرة… من مثل: (بَابُ مَا تَنْطِقُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الأَفْئِدَةُ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ): قال ابن أبي زيد القيرواني: “مِنْ ذَلِكَ الإِيـمَانُ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ: أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ، لا إلَهَ غَيْرُهُ، وَلا شَبِيهَ لَهُ، وَلا نَظِيرَ لَهُ، وَلاَ وَلَدَ لَهُ، وَلا وَالِدَ لَهُ، وَلاَ صَاحِبَةَ لَهُ وَلاَ شَرِيكَ لَهُ… لَيْسَ ِلأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلاَ ِلآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، لاَ يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ، وَلاَ يُحِيطُ بِأَمْرِه الْمُتَفَكِّرُونَ… عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى، وَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، لَمْ يَزَلْ بِجَمِيع صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، تَعَالَى أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً وَأَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً. كَلَّمَ مُوسَى بِكَلاَمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لاَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا مِنْ جَلاَلِهِ. وأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدُ، وَلاَ صِفَةً لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدُ. وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا، وَمَقَادِيرُ الأُمُورِ بِيَدِهِ وَمَصْدَرُهَا عَنْ قَضَائِهِ… تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، أَوْ يَكُونَ ِلأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى، أَوْ يَكُونَ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلاَّ هُوَ رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ…”[7].
هكذا ضمت مقدمة الرسالة معالم واضحة من العقيدة السنية معززة بما ذهب إليه الإمام الأشعري في مسائله العقدية فيما تعلق بإثبات الصفات وخلق القرآن ومسألة القضاء والقدر…
كما استعرض شهاب الدين القرافي في كتابه الجامع من الذخيرة مجمل اعتقاد مالك في الله وفي الأنبياء والصحابة، وفي التقليد في العقيدة، وفي البدع الفكرية. وعلق القرافي على هذا المبحث بقوله: “هذا الكتاب يختص بمذهب مالك لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب”[8].
إن أبرز معالم معتقد مالك -كما صورها القرافي وغيره- أنه كان يعتقد في الله أنه واجب الوجود حي بحياة قادر بقدرة مريد بإرادة عالم بعلم سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام، وأن صفاته واجبة الوجود، أزلية أبدية عامة التعلق، فيتعلق علمه بجميع الجزئيات والكليات الواجبة والممكنة، وإرادته متعلقة بجميع الممكنات، وعلمه متعلق بجميع المعلومات، وبصره متعلق بجميع الموجودات، وسمعه سبحانه متعلق بجميع الأصوات، والكلام النفساني حيث كان من خلقه والقائم بذاته، وأن قدرة الله عامة التعلق بجميع الممكنات الموجودة في العالم من الحيوان وغيرهم، ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [سورة الشورى/ الآية: 9]. له أن يفعل الأصلح، وله ألا يفعل ذلك ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ [سورة الاَنبياء/ الآية: 23][9].
وكان مالك يعتقد أن التقليد في العقيدة لا يجزئ[10]. وكان يثبت رؤية الله في الآخرة[11]. وكان يرى أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض[12].
ومن معالم اعتقاد مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يرى أنهم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأن أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وقيل عثمان وعلي، ولا يفضل بينهما…[13]
من هنا يمكن القول: إن الحديث عن المذهب الأشعري هو حديث عن مدرسة إسلامية أصيلة أسهمت بشكل كبير في تحصين المعتقد الإسلامي على طريقة أهل السنة والجماعة. كما قام أئمتها بدور فعال في الحفاظ على جوهر التوحيد الإسلامي القائم على الإثبات والتنزيه، وذلك باعتماد أدوات النظر العقلي السديد، دون تنكر للنقل بوصفه أساس الواجبات العقدية كلها…
تميز علم الكلام الأشعري في المغرب بطابع التعميم على مجموع شرائح المجتمع، بما في ذلك عامة الناس؛ فأضحى وكأن هناك مجالين معرفيّين:
مجال تنتظم فيه الثقافة العقدية انتظاما يتلقاه المتعلمون داخل حقل تعليمي مضبوط ومنظم. والثاني يشكل الثقافة التلقائية، المتداولة في الكلام الشفوي. فبرزت ظاهرة خاصة بالثقافة الأشعرية في الغرب الإسلامي، وهي ظاهرة تنقية الثقافة الشفوية من رواسب العقائد الأخرى كالمعتزلية، والشيعية، والخارجية… مما جعل هذه العقيدة تحافظ على استقلاليتها وتميزها…
اضطرت هذه الخاصية -أي إنزال علم الكلام إلى العامة- المنظرين تباعا إلى تبسيط مضامينه واختصارها، حتى يسهل على الناس تناولها والاقتراب منها، وحتى لا يسبب أي شيء فيها داعيا لنفورهم منها وبعدهم عنها. لذلك لم تختلط مباحث هذا العلم بمباحث الفلسفة والمنطق كما فعل متأخرو الأشاعرة في المشرق. بل ظل عندهم مبحث العقائد مبحثا مبسطا تداوله العامة والخاصة على حد سواء.
نظرا للواقع النظري المغربي الذي كان واقعا بعيدا إلى حد ما عن أفكار من عرف في تاريخ الإسلام بمنكري النبوات والمعجزات، لم يثبت أن ظهر في الفكر المغربي عبر تاريخه الطويل من اعتنق هذه الأفكار أو رددها، بخلاف ما هو حاصل في المشرق؛ حيث نجد موضوع النبوات في عقائد متكلمي المشرق وأشاعرتهم بخاصة بارزا بشكل واضح ومطبوعا بطابع الشعور بالتهديد، فكثرت فيه الاستدلالات على صحة النبوة والمعجزات، وطال فيها الحديث، بينما ظل موضوع النبوة موضوعا يدخل في إطار ما ينبغي اعتقاده والتصديق به…[14]
إن استمرار المغاربة في التشبث بالعقيدة الأشعرية انعكس بشكل واضح وجلي على مختلف المناحي الحياتية سواء الشفوية منها أو السياسية[15]، فقد أثرت مضامين العقيدة الأشعرية في الثقافة الشفوية في المجتمع المغربي، تجلى ذلك في مختلف الأدعية، والحكم، والأمثال السائدة، لتعكس جميعها فكرة القضاء والقدر، والقدرة المطلقة للذات الإلهية، وإمكانية رؤية الله، وأمور أخرى. كما أسهمت العقيدة الأشعرية في تكوين رؤية الإنسان المغربي إلى الكون والحياة، حيث تمكنت من أن تمثل عند الإنسان العادي رؤية إلى العالم معينة، وكذا إلى الله، وإلى علاقته بالعالم.
من هنا تبرز أهمية إعادة الاعتبار لهذا الفكر، وتجديد قراءته، وتطوير مقولاته، وإعادة تقعيد قواعده، تمشيا مع روح العصر ووفقا لمقتضيات الحوار الحضاري. كما أن الحاجة ماسة اليوم للتذكير بدور المغاربة في المحافظة على العقيدة الأشعرية، والرغبة في إحياء هذا التراث، والتذكير بماضيه بغية تطويره وتقريبه…
بقي أن نشير إلى أن الفكر الأشعري في الغرب الإسلامي عموما، وفي المغرب الأقصى خصوصا، هو طبق الأصل لصاحب المذهب وهو الإمام أبو الحسن الأشعري… الأمر الذي يفيد من جهة أخرى أن أشعرية المغاربة لم تتأثر ببعض الآراء الأشعرية في المشرق.
وقد كان لجامع القرويين فضل كبير في نشر هذه العقيدة واستمرار وجودها في المغرب، إذ كانت محل عناية شيوخه الذين كانوا يقومون على تدريسها ويؤلفون في شرحها وتحليلها إلى عهد قريب…
[1] ترتيب المدارك، للقاضي عياض.
[2] الاستقصا، للناصري، 1/ 140.
[3] تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، تأليف يوسف احنانة، ص: 200، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية (1428هـ/ 2007).
[4] ابن خلدون في العبر، الإدريسي في نزهة المشتاق، ابن أبي زرع في روض القرطاس، الطبري في تاريخ الأمم والملوك، اليعقوبي في المسالك والممالك، المقري في نفح الطيب… وغيرهم من الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع.
[5] كمباحث العبادات والمعاملات والأقضية والجنايات…
[6] التبصير في الدين لأبي المظفر الإسفراييني، ص: 185. وكشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزودوي، 1/36.
[7] انظر مقدمة ابن أبي زيد القيرواني.
[8] الذخيرة للقرافي، 13/ 213.
[9] المصدر نفسه، 13/ 231.
[10] المصدر نفسه، 13/231.
[11] سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 102، وحلية الأولياء لأبي نعيم، 6/ 326.
[12] ترتيب المدارك، 1/ 183، حلية الأولياء، 6 / 32، وسير أعلام النبلاء، 8/ 77.
[13] الذخيرة للقرافي، 13/ 233.
[14] تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، يوسف احنانة، ص: 281.
[15] المرجع نفسه، ص: 284.