بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اعتنى المغاربة بالحديث النبوي الشريف عناية لا يضاهيها إلا عنايتهم بالقرآن الكريم.
ولقد أحسن المشرفون على مجلة دعوة الحق باختيار هذا الموضوع الجليل الذي يبرز جهود المغاربة في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر بجلاء النبوغ المغربي في علم الحديث النبوي الشريف.
إن المتأمل في كتب التاريخ المغربي، وكتب التراجم المغربية والأندلسية، سينبهر بما أنجزه علماء الغرب الإسلامي وما قدموا في خدمة الحديث النبوي، وسيقف على غزارة إنتاجهم، مع الجودة والإتقان في التأليف، وسيظهر له تميزهم ودقتهم فيما ألفوا من تصانيف وكتب.
ونظرة عجلى على تاريخ ابن الفرضي، وجذوة المقتبس، والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، والذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي، وسوس العالمة للمختار السوسي، والاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى للناصري… وفهرس الفهارس للكتاني، ومعلمة القرآن والحديث لعبد العزيز بن عبد الله، وكتاب التراث الحديثي بالمغرب خدمة المغاربة للمدونة الحديثية محمد رفيق، وكتاب تراث المغاربة في الحديث النبوي، لمحمد بن عبد الله التليدي رسالة ماجستير، بإشراف الدكتور إبراهيم بن الصديق الغماري. والنبوغ المغربي في الحديث النبوي للدكتور محمد رستم وغيرها كثير تظهر كل ما ذكرنا بجلاء ووضوح.
ولم يقتصر علماء الغرب الإسلامي على التأليف في الموضوعات المختلفة في علوم الحديث، بل استدركوا على كتب المشارقة، وتعقبوا ما ورد عند بعضهم بالدليل والبرهان؛ مما جعل العلماء يعترفون ويقرون لهم بالمكانة المتميزة والتضلع في علوم الحديث.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أنوه بما استفدته من تكويني في دار الحديث الحسنية، وهي مفخرة المؤسسات العلمية بالمملكة الشريفة، وفيها عرفنا ما للغرب الإسلامي من حضور في جميع الحقول المعرفية، وبالخصوص في العلوم الشرعية
وكم كنت أطرب لسماع بعض العلماء، وهم يتحدثون عن جهود المغاربة في هذا المجال، وتنتابني مشاعر الفخر والاعتزاز وهم يصفون مناهج علمائنا، ودقائق العلم التي ألفوا فيها، والذخائر التي خلفوها، ومن هؤلاء الذين حببوا إلى طلبة العلم الاهتمام بإبداعات المغاربة: العالم الجليل سيدي محمد المنوني، والأستاذ الفاضل محمد الراوندي رحمهما الله تعالى، والعلامة عميد المشتغلين بالسيرة النبوية فضيلة الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى سيدي محمد يسف حفظه الله تعالى وبارك فيه وفي علمه. وإن لحديثهم لوقعا في النفوس، وأثرا عميقا في الفؤاد.
وهذا الاهتمام لم يكن خاصا بالعلماء فقط وبالرعية بل حرص ملوك المملكة المغربية على العناية بالحديث النبوي.
ووصلا للماضي بالحاضر وعلى سنن ملوك المغرب يسير مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله في الاهتمام بالسنة النبوية وإيلائها ما يليق بها من عناية.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أذكر على سبيل الفخر والاعتزاز ما تم تحقيقه وإنجازه في عهده الميمون من إنجازات في كل المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية، وما نعيشه من رفاهية وازدهار هو ثمرة عبقرية مولانا أمير المؤمنين نصره الله وأيده.
وقد أولى، نصره الله وأيده، عناية خاصة للعلوم عامة، وللعلوم الشرعية خاصة؛ خِدْمَة لِدِينِ الله ولسنةِ جَدِّه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ويظهر ذلك في أمور تجل عن الحصر، أذكر أهمها؛ لأن المقام لا يتسع لذكر كل ما تم تحقيقه، وما تم إنجازه في عهده الميمون؛ لأن بسطه يحتاج إلى مؤلفات ودواوين للوقوف عليه بتفصيل، فما نذكره هنا هو غيض من فيض جهوده وقطرة من بحر اهتمامه بالسنة النبوية الشريفة. ومن مظاهر هذه العناية:
والمتتبع لخطبه نصره الله وأيده يجدها مرصعة بأحاديث جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا تخلو خطبة من استشهاد بحديث أو أحاديث، وفي ذلك دَلالةٌ قويةٌ على حضورِ السنةِ النبويةِ في رُؤْيَتِه العَمِيقَة في البناء والعمران؛ اقتداءً بالسيرة النبوية العَطِرة على صاحبِها أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم.
تأسست دار الحديث الحسنية في فاتح نونبر 1964م بناء على خطاب ملكي ألقاه جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في جمع من العلماء المشاركين في الدروس الحسنية. وبمقتضاه صدر المرسوم الملكي المؤسس للدار في 11 جمادى الأولى عام 1388هـ (6 غشت 1968م).
والهدف الرئيسي من إنشاء هذه المؤسسة هو تكوين علماء راسخي القدم في الحديث النبوي الشريف وفي العلوم الشرعية عموما.
وبتاريخ 18 رجب 1426 (الموافق 24 غشت 2005م) صدر الظهير الشريف 1.05.159 بإعادة تنظيم دار الحديث الحسنية، وقد جاء التغيير تلبية للإرادة الملكية الراسخة بمواصلة “نهج التجديد في الحقل الديني”، وذلك “بإصلاح هياكله وتأهيل مؤسساته لتكون في مستوى الأداء الجيد لمسؤولياتها العلمية والتربوية، وبخاصة تكوين أجيال من العلماء القادرين على الاجتهاد وإعطاء الإسلام الحنيف صورته المشرقة”.
وبتاريخ 16 غشت 2010م، أشرف أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله على تدشين المقر الجديد لمؤسسة دار الحديث الحسنية بحي الرياض بالرباط.
وفي سنة 2015م أصبحت مؤسسة دار الحديث الحسنية منضوية تحت جامعة القرويين بموجب ظهير شريف رقم 115.71 الصادر في 7 رمضان 1436ه (24 يوليوز 2015م) بإعادة تنظيم جامعة القرويين.
هذه الدروس الحسنية المنيفة التي تَشرُفُ برئاسته وحضوره الفعلي فيها، إنما هي مدارسة للحديث النبوي الشريف، وإحياء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذَبٌّ عنها.
الختم فن من فنون الحديث المهمة، وقد جرت عادة المغاربة بالاعتناء بصحيح البخاري وبتخصيص مجالس لسرده، تتوج بحفل الختم الذي يرأسه مولانا أمير المؤمنين ليلة القدر، فيه يختم الصحيح ويتناول عالم من علماء المملكة الشريفة الحديث الأخير من الصحيح بالشرح والدراسة والتحليل.
وللمغاربة عناية خاصة بكتاب الشفا للقاضي عياض رحمه الله تعالى وشغف كبير بهذا السفر العظيم.
وبتوجيه من أمير المؤمنين تقوم المجالس العلمية بالمملكة بتدريس هذا الكتاب النفيس وشرحه، وخصوصا في ربيع الأنوار، حيث يسرد الكتاب في المساجد الجامعة، ويشرح ويختم في ليلة المولد الشريف.
الموطأ كتاب جليل عظيم القدر؛ فهو أول كتاب حديثي يصل إلينا، قال الإمام ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي:” اعلموا- أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي[1] هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب”[2].
وقد أعطى حفظه الله تعالى أَمْرَه السامِيَ بتحقيقِ موطأِ الإمامِ مالكٍ رحمه الله، الذي جمع بَيْنَ كونِه أقدمَ كُتُبِ الحديثِ، وصحةِ ما جاء فيه من الأحاديث، وجلالةِ قدرِ مؤلِّفِه وهو الإمام مالك رحمه الله.
والمعتنون بتحقيق المخطوطات يقرون بأنَّ الطبعةَ التي أشرفَتْ عليها لجنةٌ عِلْمِيَّةٌ مِن المجلس العلمي الأعلى، هي أتقنُ وأدقُّ نُسْخَةٍ وأحسن طبعة لهذا السفر العظيم. وقد تُرْجِم بمملكتنا الشريفة بجامعة الأخوين بإشرافٍ من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى الإنجليزية، وهي النسخة التي اعتمدَهَا بَرْنَامَجُ الدراساتِ الشرعيةِ في جامعة هارفارد الأمريكية اعترافا بجودتها وأهميتها في الاطلاع على أول كتاب حديثي وصل إلينا.
وبأمر من أمير المؤمنين أشرفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على طبع عدة أسفار ونفائس مما دبجته يراع علماء الغرب الإسلامي، أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:
وغيرها كثير.
وفي إطار عنايته- حفظه الله- بالسنة، أَمَر جلالتُه بإقامة الدروس الحديثية- بشقيها البياني والتفاعلي- التي تبثها قناة محمد السادس للقرآن الكريم السادسة وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، وقد ترأس إعطاء انطلاقتها.
وقد أسهمتْ هذه الدروسُ المباركةُ في إغناء المشهد الديني الإعلامي بتقريب علماء الأمة- ولاسيما أهلِ الحديث- مِنَ الناسِ، بالتفاعل معهم في تمييز ما صح من الحديث وما لم يَصِحَّ منه، وما عليه العملُ وما ليس عليه العملُ، ترشيدا لفهم نصوص السنة النبوية.
بالإضافة إلى البرامج الأخرى التي تعتني بالحديث النبوي ويقدمها علماء من المملكة الشريفة على أثير إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وعلى قناة محمد السادس للقرآن الكريم: “السادسة”.
وجريا على سيرة أسلاف أمير المؤمنين في الاهتمام بالحديث، وحرصا من جلالته على تشجيع كل عمل يسهم في العناية به، وربطا للشباب بالسنة النبوية المطهرة ورغبة في مكافأة القدرات الوطنية المتميزة في خدمة الحديث رواية ودراية. خصص مولانا أمير المؤمنين جوائز لأهل الحديث، وجائزةُ محمدٍ السادس للحديث خدمةٌ أخرى للحديث وأهلِه، وتكريمٌ لحَمَلَةِ الحديث النبوي الشريف، حيث تُخَصَّصُ لأهم الشخصيات العلمية التي كان لها في المملكة الشريفة حضور وتَمَيُّزٌ كبير في خدمة الحديث روايةً ودرايةً؛ بالذود عنه، وإيضاحِ مسائلِهِ وقضاياه، بما يُجَلِّي بهاءَ هذا الدينِ وجماليتَه. ويَشْرُفُ الفائزون بهذه الجوائز الكريمة بتسلمها من يده الشريفة.
وقد أعطى نصره الله وأيَّدَه، أمرَهُ الساميَّ بإنشاء هذه المنصة خدمةً لحديثِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي مكرمة أخرى من مكرمات مولانا أميرِ المؤمنينَ، تُتَوِّجُ كُلَّ الأوجهِ السابقةِ مِنَ العنايةِ المتفردةِ، والرعايةِ المتجددةِ، وذلك بإنشاء منصةٍ إلكترونيةٍ تُعْنى بحديث سيدنا رسول الله، وتَخْدُمُ السُّنَّةَ بِصيغةٍ عصريةٍ جديدةٍ، وهكذا انتدبَ المجلسُ العلميُّ الأعلى- تنفيذا للأمر السامي- نُخْبَةً مِنَ الأساتذة المتخصصين في علم الحديث؛ للإشراف على هذه المنصة، يؤازرهم ويشاركهم ثُلَّةٌ مِنَ الأئمة المرشدين والمرشدات مِن خِرِّجِي معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات.
والغاية من هذه المنصة استثمارُ وسائلِ العصرِ المتنوعةِ في تقريبِ الحديثِ النبويِّ لعمومِ الناس؛ لتمييز الغث من السمين، والصحيح من السقيم من الروايات، وتوسيعُ دائرةِ نشرِهِ في مختلِفِ بِقاعِ المعمور، وَفْقَ رُؤْيةٍ معرفيةٍ ومنهجيةٍ مُسْتَمَدَّةٍ مِنْ طبيعةِ الدرسِ الحديثي بالمدرسة الحديثية المغربية. ويتكون رصيدُ هذه المنصة من عشرة آلاف حديث، فهي تُمَكِّنُ – وبطريقة آمنةٍ من فكر الغلو والتطرف، آمنةٍ مِنْ فِكْرِ التكفير، كُلَّ مَن يَسْتَخْدِمُها مِنْ مَعرِفَةِ:
1) مَنْ روى الحديثَ مِنْ أصحاب الكتب المعتمدة؟
2) وما درجته هل هو: صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو موضوع مكذوب؟
3) وهل هذا الحديث عليه العمل أم لا؟ وهل هو محكم أم منسوخ؟ عام أم خاص؟ مطلق أم مقيد؟
ويتم البحث في المنصة إما عن طريق كتابة كلمة مفردة من الحديث، أو طرف منه دال عليه، أو عن طريق راوي الحديث، أو عن طريق موضوع الحديث (معنى الحديث ومضمونِه)، أو عن طريقِ درجتِه من الصحة وغيرها.
فإذا لم يتمكن المتصفح من العثور على الحديث بالمنصة، وهو أمر في غاية الندرة في الأحاديث الأصول أي: أمهات أحاديث الأحكام، هنا يلجأ المتصفح إلى بوابة “سؤال وجواب” ليطرح سؤاله على لجنةٍ علميةٍ متخصصةٍ تُجِيُبه عن سؤاله في أقلَّ مِنْ أربعٍ وعشرينَ ساعةً.
كما تُقَدِّمُ هذه المنصَّةُ خَدَمَاتٍ جليلةً أخرى منها: الوقوف على جهود المغاربة في خدمة الحديث، وما ألَّفوا وما دَوَّنُوا في هذا مجال الدرس الحديثي، كما تُمَكِّنُ مِنَ الاطِّلاعِ على الدروسِ الحديثيةِ المتلفزة، والبرامجِ الإعلامية، والمحاضراتِ العلميةِ، والندواتِ، واللقاءاتِ ذاتِ الصلةِ بحديثِ رسول الله أو السيرة النبوية… وغيرِها.
إن المغاربة لمعتزون بما يوليه جلالته لقضايا الدين من صنوف الرعاية والعناية بما لا يحيط به عَدٌّ ولا حَصْر، وَهم فَخُورون بما تَمَّ تَحْقِيقُهُ وإنجازُه في عَهْدِه الميمونِ الزاهر، في كل المجالات وفي كل الميادين.
فأسألُ اللهَ جَلَّ في عُلاه أن يحفظ مولانا أمير المؤمنين من كل سوء، ومن كل مكروه، وأن يحرسه بعينه التي لا تنام، وأن يحوطه بركنه الذي لا يضام، وأن يُعِينَه على ما ناطه به، وَوَكَلَهُ إليه مِن تَدبيرِ أمورِ هذا البلدِ الأمينِ، والذبِّ عن حِياضِ الدينِ.
كما أسأله سبحانه أن يُقِرَّ عينَه بولي العهدِ، وطالعِ السعدِ، صاحبِ السموِّ الملكِي الأميرِ الجليلِ مولاي الحسن، وأن يُنْبِتَه النباتَ الحسنَ، وأن يَشُدَّ عَضُدَه بِصِنْوِه السعيد، صاحبِ السموِّ الملكي الأميرِ الجليلِ مولاي رشيد، وبكافة أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
كما أسأله سبحانه أن يرحمَ الْـمَلِكَين المجاهِدَيْنِ مولانا محمدا الخامس والملك الباني مولانا الحسن الثاني، وأن يُطَيِّبَ ثراهما، وأن يجعَلَهُما في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الجعفي -كما لا يخفى على طلبة العلم- هو صاحب الجامع الصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
[2] عارضة الأحوذي، 1/5.