إفتاء الناس في المسائل الحادثة، وإخبارهم عن حكم الشارع في المستجِدّات؛ مقام لا يبلغه إلا العالمون الراسخون؛ ولذلك أفرد الفقهاء مصنفات ورسائل لبيان أحكام الفتوى، وآدابها، وشروطها، وقواعدها، وكل ما يليق بها؛ تنبيهًا على خطورة أمرها، وتدليلا على عظم شأنها، وتمهيدا لتأهيل مريد الانخراط في سلكها والانضمام إلى ركب أهلها.
ولا بدّ أن تكون الفتوى الرصينة قائمة على دليل شرعي صحيح، ومستندة إلى منزع فقهي رجيح؛ وفق مذهب معين معتبر؛ رصًّا للصّفوف، وجمعا للكلمة. ومن ثم لا يمكن أن ينهض بها من لم يكن متمكنا من مدارك الأحكام، وعالما بمآخذ المسائل، وجامعا لفروع مذهبه، ومتقنا لطرائق صنعتها وتنزيلها على محالها. والجاهل بذلك؛ لا يجوز له أن يفتي؛ بل يمنع أن يجتهد فيما لا نص فيه، ويفتي الناس به. ولذلك قيل: “يُحجر على المفتي الماجن والطبيب الجاهل”.
ولا يكفي معرفة الحكم، واستخراجه في الإفتاء به؛ بل يتعيّن على المفتي رعي تحقيق مناطه، واعتبار أعراف محيط تطبيقه، ومآل تنزيله، وغير ذلك من التقادير والاعتبارات التي ينبغي له الأخذ بها عند تنزيل الأحكام على وقائعها. وهذا يقتضي أن يكون المفتي على وَصْل واصب بمجتمعه، عالما بما يجري في أسواق الناس؛ حتى يقترح الأحكام الشرعية المناسبة، وبذلك يكون قد اضطلع بالوظيفة البيانية (التبليغية)؛ التي ورثها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأجل ذلك؛ جعلت هذا البحث في مطلبين أولهما في الحديث عن أهلية المفتي، وثانيهما في سبل مراعاته أحوال المستفتي.
إنّ المفتي هو مناطُ الأحكام، وملاذُ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال، إليه يفزع الناس، وبه يلوذون إذا نزلت بهم نازلة أو مشكلة؛ لأنّه “مخبرٌ عن الله كالنّبي، وموقعٌ للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنّبي، ونافذٌ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنّبي، ولذلك سمُّوا أولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى[1]: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِے شَےْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اَ۬للَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِۖ ذَٰلِكَ خَيْرٞ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً (58)﴾“[2].
ولما كان المفتي بهذه المثابة؛ اشترط فيه الفقهاء شروطا تؤهله لتولّي هذا المنصب المنيف. وقد أجمل العلامة أحمد الهلالي شروط المفتي في شرطين رئيسين؛
أولهما: العدالة، وثانيهما: العلم والمعرفة[3].
ولأهمية هذين الشرطين؛ سنفرد الكلام على كل واحد منهما في فرع مستقل.
الفرع الأول: عدالة المفتي.
لقد اشترط العلماء في المفتي أن يكون عدلا ورِعًا؛ لئلا يرتكب ما لا تجوز الفتوى به قصدًا أو تساهلا؛ فالقصد أن يتعمّد ذلك لغرض فاسد. والتساهل ألا يتثبّت؛ فيفتي بغير تدقيق النظر في المسألة[4]. قال الشاطبي:” فالفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهّي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدا”[5]
ومما يتعلّق بهذا الفرع ويندرج فيه: تحكيم مقصد الشارع من المكلف، وحمل الناس على الوسط الذي يليق بالجمهور. وقد أكّدَ الشاطبي هذا المعنى بقوله: ((المفتي البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال…فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين“[6].
الفرع الثاني: علم المفتي ومعرفته.
والمقصود أن المفتي لا بد أن يكون على علم واسع بأحكام الفقه، وفروعه، ومسائله؛ تأصيلا وتنزيلا؛ وذلك ضمانا لسلامة منهج الفتوى، وحفظا لنظامها من الفوضى والاضطراب المفضيين إلى توسيع الاختلاف، وتسريب ما هو مذموم منه إلى الناس؛ ولا سيما في الأحكام المتعلّقة بالشؤون العامة للأمة وما في حكمها.
إن المطلوب من المفتي بيان حكم الشرع، فلا بد أن يكون عالما بحكم النازلة قبل الإقدام على الإفتاء؛ وقد حذّر الحقّ سبحانه من الإفتاء بدون علم؛ فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اُ۬لْكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفْتَرُواْ عَلى اَ۬للَّهِ اِ۬لْكَذِبَۖ إِنَّ اَ۬لذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اَ۬للَّهِ اِ۬لْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَۖ(116)﴾[7].
وسنبسط الكلام على هذا الشرط في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: النظر إلى أهلية الفتوى من خلال المذهب الفقهي.
ويظهر من خلال تتبع كلام الفقهاء المتأخرين عن هذا الشرط أنهم ينظرون إلى علم المفتي، ومعرفته، وأهليته من زاوية التمذهب، والتقيد بالمذهب في الفتيا؛ توحيدًا للصف، ولمًّا للشمل، وجمعًا للكلمة.
إنّ معيار هذه الأهلية لا ينفك عن معرفة المذهب الفقهي، والتبحّر في أحكامه الاجتهادية، والإحاطة بمدارك مسائله، وإدراك مستندات فروعه، والتمكن من مآخذ قضاياه، والعلم بقواعد جزئياته وكلياتها؛ قال القرافي: “لا يجوز لمفت أن يخرج غير المنصوص على المنصوص إلا إذا كان شديد الاستحضار لقواعد مذهبه وقواعد الإجماع، وبقدر ضعفه في ذلك يتجه منعه من التخريج، بل لا يفتي حينئذ إلا بمنصوص إن كان له الاطلاع على منقولات مذهبه، بحيث لا يخفى عليه غالبا أنه ليس في مذهبه ما يقتضي تقييد هذا النص المطلق الذي أفتى به، ولا يخصص عمومه.
فإن لم تكن له هذه الأهلية، ولا هذا الاطلاع؛ امتنع أن يفتي مطلقا، حفظ نص المسألة أم لا؟ لأن هذا النص الذي حفظه يحتمل أن يكون قيّد في المذهب بقيد غير موجود في الفتيا، وتحرم عليه الفتيا حينئذ. وهذا يقتضي أن من لا يدري أصول الفقه يمتنع عليه الفتيا، فإنه لا يدري قواعد الفروق والتخصيصات والتقييدات على اختلاف أنواعها إلا من درى أصول الفقه ومارسه”[8].
ويمكن تصنيف طبقات المفتين باعتبار أهليتهم العلمية إلى أربع[9]:
الطبقة الأولى: المجتهد المطلق؛ أن يرتقي المفتي إلى درجة الاجتهاد المطلق، وتتحصل له أدواته، وتتجمع فيه شروطه المسطرة في كتب أصول الفقه. وتلزمه الفتوى بما أداه إليه اجتهاده، وأثمرته أدلته وقواعده، ولا يقلد غيره من المجتهدين. ويفتي بالراجح عنده من الأدلة عند التعارض والاختلاف. وإن لم يتعين عنده الراجح؛ فقيل بالتساقط، وقيل بالتخيير.
الطبقة الثانية: مجتهد المذهب؛ وهو العالم بقواعد مذهب إمامه، وأدلته، ومداركه، ومنازع أحكامه، الحافظ لفروع المذهب، والمتبحّر في أقوال فقهائه، والمستوعب لأصول الفقه، وعلوم الآلة التي تمكّنه من التّصرف في المذهب.
وتلزمه الفتيا بالمتّفق عليه في المذهب، والراجح من الخلاف عنده. وإذا تعذّرعليه الترجيح بين القولين أو الأقوال؛ أفتى بأحدها، واختلف: هل يعينه لمستفتيه، أو يخيره بها؟
قال ابن رشد الجد: “وليست الفتوى بالفقه المشهور، ولكنها ثمرة معرفة الفقه. فأما الحافظ الذاكر لما في أمهات مسائل مذهبه من الأحكام الشرعية فهو الفقيه المقلد، وقد اختلف العلماء في جواز فتواه، وذلك بشرط أن يكون له من الذكاء والفطنة وسلامة القريحة ما يميز به فيما هو موجود في أمهات مسائل مذهبه بين ما هو من المذهب وما ليس من المذهب، ويميز به في المذهب بين ما هو مجمل وما هو مفسر، ويميز في الروايات بين ما هو خلاف قول وما هو خلاف حال وما هو خلاف لفظ، وبين ما ينبني من الروايات، وما لا ينبني. بالجملة: فالمقصود أن يحصل عنده أصل المذهب منقولا بوجه صحيح، وأن يحصل له في كل ما له أن يفتي به من المذهب يقين أو ظن غالب”[10].
وإذا لم يجد نصًّا في المسألة داخل المذهب؛ ففي ذلك اتجاهات ثلاثة:
الطبقة الثالثة: المفتي الذي لا يتقن قواعد إمامه، وما ذكر في الطبقتين المتقدّمتين؛ ولكن تجوز له الفتوى بما يحفظ من نصوص مذهبه ما يوافق نازلة ما مطابقة تامة، ولا يقيس عند انعدام النص، ولا يخرج على النظائر. والفرق بين مجتهد المذهب ومجتهد الفتوى أن “مجتهد المذهب هو الذي يقدر على إقامة الأدلة في مذهب إمامه، أما مجتهد الفتوى فهو الذي يقدر على الترجيح”[11].
الطبقة الرابعة: وقد تَنزَّل بعضُهم، فأضاف إلى أهل الفتيا طبقةً رابعةً، وهي أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات؛ ولكن عنده ضعفٌ في تقرير أدلّتِه، وتحرير أقيسته؛ لجهله بالأصول، فهذا يُعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدةٍ من قواعده، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به[12]. وصرّح أحمد بن قاسم في “الآيات البينات” بأنّ صاحب هذه المرتبة ليس من الاجتهاد في شيءٍ”[13].
وذلك لأن بعض مختصرات المذهب ومتونه التي ترد فيها مسائل عامة ومطلقة، تحتاج إلى تخصيص وتقييد، وتتضمن الصحيح والسقيم، وهو لا معرفة له بالمخّصصات والقيود، ولا قدرة له على الترجيح والتضعيف، ولا التشهير والتشذيذ؛ أي: لا أهلية له في تعيين الراجح من الضعيف، ولا تمييز المشهور من الشاذ، “فهذا تحرم عليه الفتوى بما حصله، لأنه هو والعامي المحض سواء في الجهل بما تجب به الفتوى“[14].
ويستفاد من هذه الرؤية المعيارية لمراتب المفتين؛ أن المذهب هو سياج الفتوى، ودستورها، وإطارها المرجعي، وحصنها الحصين، وزمامها المتين. فلا تَصِحَّ قاعدةٌ في الفتوى إلا من ذات المذهب؛ لاختلاف الفقهاء في الحقائق والمعاني. والعبرةُ عند المالكية إنَّما تكون بقول الإمام لا غير، فلا يُعدَل عنه البتة لقول أحد من نُظَّار أصحابه، بلا خلاف صحيح يُعتدُّ به.
فكل ما يشترط من شروط المفتي وأهليته، ينبغي معالجته، والنظر إليه من ذات المذهب؛ أي: أصوله، ومآخذه، ومنازعه، ومداركه، ونصوصه، وأقواله، ورواياته؛ وهو ما أكّده المازري بقوله: “الذي يفتي في هذا الزمان أقلّ مراتبه في نقل المذهب، أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب، وتأويل الأشياخ لها، وتوجيههم بما وقع فيها من اختلاف ظواهر، واختلاف مذاهب، وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها، وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها، إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم“[15].
وقد سئل شيخ العلوم محمد بن محمد المرير التطواني (ت1398ه (من أي طبقة من الطبقات المذكورة يعد أهل الإفتاء في زمننا هذا؟ فأجاب بقوله: “إنه قد تقرّر في كتب المتأخرين من أهل هذا الشأن؛ أن الطبقات الثلاث كلها مفقودة، فلا يوجد في هذا العصر مجتهد الفتوى، ولا مجتهد المذهب، فضلا عن المجتهد المطلق؛ لأنهم قرّروا أن الفتوى والحكم لا يكون إلا بالمشهور، أو الراجح، أو ما به العمل. وأن المفتي والقاضي اليوم ليس لهما إلا الاتباع والتقليد، وأنهما بمعزل عن الاختيار والترجيح، فحسبهما في ذلك النقل عمن سلف في كلام ابن عرفة من أئمتنا وغيره، ونظم ذلك صاحب العمليات في قوله:
حكم قضاة الوقت بالشذوذ يرد لا يتم بالنفــــــــــــــــــوذ
ومن عوام لا تجز ما وافقا قولا فلا اختيار منهم مطلقا”[16]
ويظهر من خلال ما تقدّم، أن المفتي يجب أن يتقيد بمنظومة المذهب ونسقه الكلي؛ حتى تسير الفتوى سيرا مطردا؛ وفق المعايير الآتية:
وبالجملة؛ فالمفتي الذي تعتبر فتواه اليوم هو من حصلت له ملكة في الفقه، يقتدر بها على أخذ نص المسألة من مآخذها، ويدرك كيف يستخرجها من مظانها.
المسألة الثانية: اعتماد الأقوال المعتبرة في الفتوى.
عني أصحاب المذهب بجمع أقوال الإمام، وأقوال الفقهاء ونقول الشراح، وتأويلات النظار، ورتبوها ترتيبا تنضبط به الفتوى، وتتحد مسالكها. ففي المذهب المالكي انتظمت الأقوال الفقهية وفق الترتيب الآتي[17]:
ج– معرفة المكان الذي جرى فيه العمل.
د– معرفة الزمان الذي جرى فيه العمل.
هـ– أن يكون العمل لمصلحة وسبب.
وقد جمع هذه الشروط الشيخ محمد كنون؛ فقال:
وَالـشَّرْطُ فِي عَمَلِنَــــــــا بِالْــعَمَلِ ثُبُوتُهُ عَنْ قُدْوَةٍ مُؤَهَّـــــــــــــلِ
مَعْرِفَةُ الزَّمَــــــــــانِ وَالْمَـــــكَانِ وُجُــــودُ مُوجِــبٍ إِلَــى الْأَوَانِ
وقد رتب النابغة الغلاوي الأقوال المفتى بها على النحو الآتي[18]:
فَمَا بِهِ الْفَتْوَى تَجُوزُ الْمُتَّفَقْ عَلَيْهِ فَالرَّاجِحُ سُـوقُهُ نَفَـــــــقْ
فَبَعْدَهُ الْمَشْهُورُ فَالْمُسَــــاوِي إِنْ عُــــــــدِمَ التَّرْجِيحُ للِتَّسَاوِي
المسألة الثالثة: التقيّد بالمشهور.
إن من تمام أهلية المفتي الالتزام بالمذهب المعتمد، وأحكامه، وأقواله، وفروعه؛ حفاظا على تدين الناس؛ حتى لا يخلعوا ربقة التكليف، وتحصينا للمجتمع من الأقوال الدخيلة التي تؤدّي إلى التفرّق والاختلاف.
وقد أفردت قضية الإفتاء بمشهور المذهب بمسألة مستقلة؛ مع تقدّمه ضمن الحديث عن الأقوال المفتى بها؛ لأن كثيرا من الفقهاء تواردوا على وجوب التقيد بمشهور الأقوال والروايات في القضاء والفتيا؛ سدًّا للذريعة خصوصا عند فساد الذّمم، وقلّة الورع، وتجاسر الجهلة وأهل الأهواء على الفتوى. وثالثة الأثافي، وقاصمة الظهور؛ أن يغتر بهم عامة الناس، فيسألونهم، فيجيبونهم بغير علم.
ومقتضَى الفقه الرّصين والسياسة الشرعية حملُ الناس على المشهور من الأقوال؛ حتى تكون الفتوى صادرة عن مرجعية واحدة؛ وبذلك يصطفون حولها، وتتوحّد كلمتهم عليها؛ قال الإمام المازري: “لا أفتي بغير المشهور، ولا أحملُ النّاسَ على غيره، وقد قلَّ الورع والتحفظ على الدّيانة، وكثُر من يدّعي العلم، ويتجاسر على الفتوى فيه بغير بصيرة، ولو فُتح لهم باب في مخالفة مشهور المذهب؛ لاتسع الخرقُ على الرّاقع، وهُتك حجاب المذهب، وهذا من المفسدات التي لا خفاءَ بها“[19].
وقال ابن أبي جمرة: “وكان من لقيناه من الفقهاء الفضلاء الأجلاء يقول: لا يحلّ لأحد أن يتدين بغير المشهور، ولا يفتي إلا به”[20].
وقال العبدوسي: “ولا عبرة بالخلاف الشاذ الذي يؤدب من أفتى به وإن كان مذهبا”[21].
وقال الشاطبي: “وأنا لا أستحل إن شاء الله في دين الله وأمانته أن أجد قولين في المذهب، فأفتي بأحدهما على التخيير مع أني مقلد، بل أتحرّى ما هو المشهور المعمول به، فهو الذي أذكره للمستفتي، ولا أتعرّض له إلى القول الآخر، فإن أشكل عليَّ المشهور، ولم أر لأحد من الشيوخ في أحد القولين ترجيحا توقفت”[22]. وقال أيضا: “فحسبنا فهم أقوال العلماء والفتوى بالمشهور منها”[23].
وقال أبو الفضل العقباني معلّقا على كلام المازري في منع الفتيا بغير المشهور: “فإذا كان المازري وهو في طبقة الاجتهاد لا يخرج عن الفتيا بالمشهور، ولا يرضى بحمل الناس على خلافه، فكيف بمن يقصر عن تلامذته أن يحمل الناس على الشواذ، هذا لا ينبغي”[24].
لكن هؤلاء الفقهاء أنفسهم؛ لم يجمدوا على هذا القول، ولم يتركوا المجتمع وشأنه في الأوضاع الصعبة والظروف القاهرة؛ التي تفرض عليهم مخالفة المشهور، والإفتاء ببعض الأقوال الضعيفة والشاذة إذا كان لها سبب وموجب؛ مراعاة لحاجات الناس وضروراتهم، ورعيا لمصالحهم ومنافعهم، واعتبارا لعوائدهم وأعرافهم التي لا تصادم أصول الشرع، والتفاتا إلى التيسير ورفع الحرج عنهم؛ قال سعيد ابن لب: “إن ما جرى به عمل الناس وتقادم في عرفهم وعادتهم ينبغي أن يتلمس له مخرج شرعي ما أمكن من وفاق أو خلاف، إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين ولا بمشهور من قول قائل”[25].
وقال الشاطبي: “والأولى عندي في كل نازلة يكون فيها لعلماء المذهب قولان، فيعمل الناس فيها على موافقة أحدهما وإن كان مرجوحا في النظر أن لا يتعرض لهم، وأن يجروا على أنهم قلدوه في الزمن الأول وجرى به العمل، فإنهم إن حملوا على غير ذلك كان فيه تشويش للعامة، وفتح لأبواب الخصام”[26].
وقال ابن سراج: “إن الناس إذا جرى عملهم على شيء له وجه صحيح يستند إليه، لا ينبغي أن يحمل الناس على قول إمام ويلزمون ذلك، إن كانوا مستندين في عملهم لقول إمام معتمد”[27].
والترجيح بين قولين للإمام في مسألة واحدة من اختصاص مجتهد الفتوى كما تقدم ذكره.
المسألة الرابعة: موارد الفتوى ومصادرها[28].
شدّد الفقهاء على أن يُفتى من التّصانيف المعتمدة الموثوق بها في المذهب؛ لأن الفتوى في جانب مهم منها عبارة عن نقل، فلا بد فيه من تحري الصحة والصواب. وهذا يستلزم أن يكون المفتي عالما بما يعول عليه من المؤلفات في نقل الفتيا وبيانها وتبليغها للناس، وما لا يعول عليه منها في ذلك؛ حتى تتوّحد مرجعية صنعة الإفتاء، وتتّحد قوانينها ومصادرها.
وقد ضبط الفقهاء الكتب المعتمدة في الأقضية والفتاوى بضابطين أساسين، واشترطوا للأخذ بها شرطين رئيسين:
الأول: صحّة نسبة التواليف إلى أربابها؛ وبناء على هذا الشرط؛ حذروا من اعتماد مجموعة من الكتب المنحولة التي لا تصح نسبتها إلى أصحابها؛ كأجوبة ابن سحنون، والتقريب والتبيين لابن أبي زيد القيرواني، وأحكام ابن الزيات، والدلائل والأضداد لأبي عمران الفاسي، وغيرها. فهذه المصنفات باطلة النسبة إلى هؤلاء الأئمة؛ ومن ثم لم يكن للاستناد إليها في الحكم والفتوى سبيل.
الثاني: صحّة التآليف في نفسها؛ أي: صحة ما حوته من المسائل، ورصانة ما تضمنته من الأحكام؛ ولذلك منع الفقهاء من اعتماد ما شذت به بعض التصانيف، وانفردت به عن غيرها؛ كشروح المختصر الآتية: الشرح الوسط للأجهوري، وشرح الشبرختي، وشرح الخرشي، وشرح التتائي الصغير، وغيرها[29].
ولقد تفطّن المصنّفون من الفقهاء لضرورة بيان القول المعتمد في الحكم والفتوى، وإفراده بكتب خاصة؛ حتى يسهل على الحاكم والمفتي طريق العثور عليه، فيكون مرجعا لهما فيما يعرض عليهما من النوازل والقضايا. وهذا ما دعا خليلا إلى تأليف المختصر؛ فقد قال في خطبته: “سألني جماعة- أبان الله لي ولهم معالم التحقيق وسلك بنا وبهم أنفع طريق- مختصرًا على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى مُبيّنًا لِمَا بِهِ الفَتْوَى“[30].
وإلى ذلك ألمع ابن عاصم في تحفته؛ فقال في مقدّمتها[31]:
وَبَعْدُ فَالْقَصْــــــدُ بِهَذَا الـــــرَّجَـــزِ تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ بِلَفْظٍ مُوجَـــــــــــــزِ
وقال أيضا:
نَظَـــــــمْتُهُ تَذْكِـــــــــرَةً وَحَيْثُ تَمْ بِمَــــــا بِهِ الْبَلْوَى تَعُــــــمُّ قَــــــدْ أَلَمْ
المسألة الخامسة: الفتوى الجماعية.
ومن تمام علم المفتي وأهليته ألا ينفرد بفتواه في النوازل التي تعمّ بها البلوى، وتتّصف بطابع العموم الذي يمسّ حياة الكافة؛ وإنما عليه أن يشترك مع غيره من العلماء والمجتهدين على سبيل المشاورة والتقصّي في النظر؛ خصوصا في المشكلات الملتبسة المتصلة بالشأن العام والمصالح العامة. وهذا ما اصطلح عليه بالفتوى الجماعية.
وقد نوّه كثير من المؤرخين بأهل المغرب والأندلس في تنظيم خطة الشورى؛ حيث كان ينتقى لمجلس شورى الأحكام جلة العلماء، وتصدر لهم المراسيم بالتعيين، فأصبح لزاما على القاضي ألا يصدر حكمه في القضايا المهمة إلا بعد أخذ رأي هؤلاء المشاوَرين.
ومن ثم؛ دعا كثير من علماء العصر إلى اعتبار جملة من القضايا ذات الحساسية الشديدة؛ ليكون تقرير الحكم فيها من اختصاص الاجتهاد المجمعي المؤسّسي؛ مثل: قضايا التكفير، وقضايا إعلان الحرب، والسلم، والجهاد، وقضايا النظم الحديثة ومتعلّقاتها السياسية، والعقود المالية الحديثة، والشركات، والبنوك، وما يعتور معاملاتها؛ من شوائب الغرر، والجهالة، والربا؛ لأن تقدير الحاجات، والمشقات، ودرجات النهي، ومعاني النصوص؛ كل ذلك يفتقر إلى رأي مجمعي، تشترك فيه مختلف العلوم والتّخصصات.
ليس الشأنُ في الفتوى معرفة الحكم المنصوص أو القاعدة الكلية، ولكنَّ الشأنَ في قوة التفطّن لانطباق الحكم أو القاعدة الكلية على صور الحوادث؛ قال ابن عبد السلام الهواري: “ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع علم الفقه، وإنما الغرابة في استعمال كلّيات علم الفقه وانطباقها غلى جزئيات الوقائع بين الناس، وهو عسير على كثير من الناس، فتجد الرجل يحفظ كثيرا من العلم، ويفهمه، ويعلمه غيره، فإذا سئل عن واقعة لبعض العوام من مسائل الصلاة، أو مسألة من الأيمان لا يحسن الجواب؛ بل ولا يفهم مراد السائل عنها إلا بعد عسر”[32].
إنّ النّوازل المتجدّدة في كل زمان قد لا تكون بعينها مما تقدّم له نظير، لكن يتقدم ما يماثلها في النوع أي في المعنى، ووظيفة الفقهاء حينئذ هي: إلغاء ما لا تأثير له من الفروق واعتبار المؤثر، وهنا يكمن التفاوت بين أقدار الفقهاء كما نصّوا عليه؛ قال ابن مرزوق في فتواه المنعوتة بـ: “تقرير الدليل الواضح المعلوم على جواز النسخ في كاغد الروم“: “كل نازلة تحدث اليوم ليست هي عين النازلة التي أفتى فيها الإمام قطعا، وإنما البحث هل هي مثلُها فتلحق بها بمقتضى فتواه أم لا؟”[33]، وقال أيضا: “وهل الفضيلة والتفاوت بين الفقهاء إلا في تمييز المثل من الخلاف، وفي التفطن لإدراج الجزئية تحت الكلية”[34]. كما أكد ذلك ابن عرفة بقوله: “القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصّور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي طرديها، ويعمل معتبرها“[35].
ثم إن الأمر في الفتوى- مبدأً ومنتهى- مبنيٌّ على رعي أحوال المستفتين، وأوضاعهم النفسية، وظروفهم الاجتماعية، والاقتصادية، وحيثيات واقعهم التكليفي، ثم اعتبار مآلات تنزيل الحكم على أحوالهم وبيئتهم.
وسنخصّص هذا المطلب لبيان بعض طرائق تنزيل الأحكام الفقهية، ومسالكه في فروع ثلاثة:
الفرع الأول: تحقيق المناط، وأثره في الفتوى.
إنّ المناط هو محلّ تنزيل الحكم ومتعلّقه، وتحقيقه الذي يرجع إلى الأشخاص لا إلى الأنواع خاص بالمجتهد العالم بواقع التكليف، والمطلع على أوضاع المستفتي وأحواله النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية؛ ولذلك “ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإنّ الفتوى تتغيّر بتغيّر الزّمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله”[36].
وتمتاز الفتوى بكونها مختصةً بتنزيل الحكم على مسألة معينة؛ إذ هي اجتهاد وزيادة؛ حيث إن حقيقة الفتوى تنزيل الأحكام الشرعية على وقائع معينة.
كما تتميز الفتوى عن الاجتهاد بأنها لا تكون ناشئة في كل أحوالها عن اجتهاد؛ بل قد تكون كشفا للمسألة من كتب الفقهاء، أو استظهارها من متونهم، أو استخراجها من نص ظاهر أو إجماع ثابت. وقد تكون مستندة إلى اجتهاد المفتي في تحقيق مناط الحكم في النازلة؛ وتحقيق المناط على هذا راجع إلى إدخال جزئيات القضايا تحت الحكم، لا إدخال جزئيات الأحكام تحت الدليل؛ وإنما هو عمل القاضي في تنزيل الحكم المقرر على القضية النازلة، ومفتي المذهب عندما يبين انطباق حكم مقرر على الصورة محل البحث؛ فهو عمل مبني على النظر في الصور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف، فيلغى طرديّها، ويعمل معتبرها؛ أي: أن يلغى ما خالف قواعد الشرع، ويعتبر ما وافقها، وهذا يحتاج إلى فقه خاص، قد يعجز من له باع طويل فيه؛ لأنّ الفُتيا دُرْبَةٌ وصِنَاعَةٌ.
وتتعلّق الفتوى بتحقيق المناط الخاص لا العام؛ لأن الجواب عن المسألة يجري على السائل في خصوصيته؛ ذلك أن “لكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين”[37]؛ أي: لا بد من النظر إلى كل مستفت على حدة، ولو اتّحدت الواقعة المستفتى عنها؛ لاختلاف الأحوال النفسية، وتباين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتفاوت العوارض البيئية والشخصية من سائل إلى آخر. فلا بدّ من اعتبار كل ذلك؛ لإصدار الفتوى المناسبة[38].
ويقوم تحقيق المناط الخاص بكل نازلة فقهية على “النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص إذ النّفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد“[39]، ويقوم أيضا على الاجتهاد في كل واقعة وقعت، ولو تقدمها نظير ومثيل، فلا بدّ من استئناف النظر فيها؛ إذ “يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة“[40]. وهذا النظر الخاص يستدعي دومًا ملاحظة الأحكام الوضعية بدرك الأسباب، والشروط، والموانع؛ فالأحكام إنما تتعلق بأسبابها، وتثبت بعللها، وتوجد عند شروطها، وتنتفي عند وجود موانعها.
ومن قواعد تحقيق المناط وضوابطه:
ومن أهم الأصول المعتبرة في هذا الشأن: التمييز بين القضايا المستفتى عنها، ويمكن تصنيفها إلى أصناف ثلاثة[42]:
وعلى هذا يمكن القول: إن الفتوى بمعناها الواسع المختص ينبغي أن تتحوّل إلى تنظيم مؤسّسي يشبه مؤسّسات “بيت الخبرة”، وقد تتكون منها مجالس استشارة، وقد تسترشد ببحوث خبراء متخصّصين ودراسات وتقارير المراكز البحثية.
إن آفة الفتاوى المعاصرة؛ غياب تحقيق المناط، وعدم الاحتكام إلى القواعد المناطية التي توجب استئناف النظر الاجتهادي في النوازل ولو تقدمها نظير، ومراعاة خصوصية كل مكلّف على حدة. لذلك شاعت الفتاوى في المواقع التواصلية والإلكترونية والقنوات الفضائية، وهي أجوبة لا تراعي خصوصيات البلدان، ولا تعتبر أحوال الأعيان، وتجهل أهلية أصحابها وخلفياتهم وتوجهاتهم؛ مما يسبب الشطط الفقهي الذي قد يعود بالضرر على المستفتي؛ بل قد يهدّد أمن بلده الروحي والاجتماعي.
الفرع الثاني: اعتبار المآل، وأثره في الفتوى.
واعتبار المآل أصل عظيم في القضاء والإفتاء؛ لأن القاضي والمفتي ينظر فيما يمكن أن تؤول إليه التصرفات والتكاليف قبل الإلزام بالحكم بالنسبة للحاكم، أو الإخبار به بالنسبة للمفتي؛ إذ “الأشياء إنما تحلّ وتحرم بمآلاتها“[43].
وإذا كان تحقيق المناط يقتضي معرفة ما هو واقع؛ فإن اعتبار المآل يقتضي معرفة ما هو متوقع؛ أي: ما يُنتظر أن يصير واقعا، ومعرفة ما هو متوقع لا تتأتى إلا من خلال المعرفة الصحيحة والدقيقة بما هو واقع؛ ومن هنا فإن معرفة المآل جزء من معرفة الواقع، وثمرة من ثمراتها.
وهذا النظر المقارن المتوازن أساس من أسس الاجتهاد لا يجوز الغفلة عنه بحال؛ فالمصالح ليست على وزان واحد كما أن المفاسد ليست كذلك؛ فقد يترك الواجب حرصا على الواجب الآكد، وقد ترتكب المفسدة الصغرى لتفادي المفسدة الكبرى، وهذا مهيع واسع، وطريق لاحب للمجتهد في تقدير المناسبات العقلية والمعاني المصلحية والموازنة والترجيح بينها. ولذلك قال الشاطبي: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد، إلا أنه عذبُ المذاق محمودُ الغِبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة“[44].
وتتفرّع عن هذا الأصل الأثيل خمس قواعد كبرى؛ منها ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدّين؛ وهي: سدّ الذرائع، وتعطيل الحيل. ومنها ما يرجع إلى صون مصالح المكلفين؛ وهي: مراعاة الخلاف، والاستحسان. ثم قاعدة جامعة حافظة لمقصود الشرع ومصلحة المكلف؛ وهي: التحفظ في جلب المصالح[45].
فأمّا قاعدة سدّ الذرائع؛ فهي: منع ما ظاهره الإذن والجواز حالا؛ لما قد يفضي إليه من المفاسد مآلا.
وأما الحيل؛ فهي: “تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع”[46].
وأما مراعاة الخلاف؛ فهي: “الجمع بين الأخذ بدليل المذهب والعمل بما يترتب على دليل المخالف مراعاة لواقع المكلفين”[47].
وأما الاستحسان[48]؛ فهو: الاستثناء من أصل كلي؛ تحصيلا لمصلحة، وتعطيلا لمفسدة؛ بناء على دليل. وهو كما قال الشاطبي: “الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي”[49].
وأما التحفظ في جلب المصالح؛ فهو: الإقدام على فعل المحظور؛ من أجل الحفاظ على الكليات الشرعية على شرط التحري والتحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج. وقد صوّر الشاطبي هذه القاعدة المآلية، وأوضحها بالمثال؛ فقال: “الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج، كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا، لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح”[50].
الفرع الثالث: مراعاة الأعراف، وأثرها في الفتوى.
لقد أولى الفقهاء للعرف في بناء الأحكام عناية فائقة واهتماما عظيما؛ حتى اعتبروه دليلا شرعيا، ومدركا فقهيا، وأصلا من أصول الاستنباط ما لم يخالف نصا أو إجماعا. وصاغوا قواعد عدة تبين منزلته الفقهية[51]؛ منها قولهم: “العادة محكمة”، وقولهم: “المعروف عرفا كالمشروط شرطا”، وقولهم: “العرف قاض”، وقولهم: “الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي”.
ولذلك قالوا: إن الفتوى تتغير بتغير عادات الناس وأعرافهم؛ وهو ما أيقظ إليه القرافي؛ فقال: “إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد؛ خلاف الإجماع وجهالة في الدين؛ بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد؛ يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد؛ بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد”[52].
كما منع الفقهاء الفتوى دون الاحتكام إلى الأعراف والعادات، وعدوها خرقا للإجماع؛ قال القرافي: ” لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق بالحرام بما هو مسطور في الكتب عن مالك حتى يعلم أنه من أهل بلد ذلك العرف الذي يترتب عليه الفتيا، فإن كان بلداً آخر أفتاه باعتبار حال بلده، وقد غفل عن هذا كثير من الفقهاء فأفتوا بما للمتقدمين وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين خارقين للإجماع، فإن المفتي بالحكم المبني على مدرك بعد زوال مدركه خلاف الإجماع”[53]
وقال ابن شاس في عقد الجواهر: “وحق المفتي أن يحيل في كل نازلة على أرباب العوائد، وإن حكم في شيء مطلقاً خرج عن باب الفتوى إلى باب الشهادات”[54]
إن من الأحكام ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه؛ بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا، ومن ثم كان من اللازم مراعاة العرف السائد في البلد واصطلاحات أهلها عند الفتوى؛ ولكن يستلزم ذلك أولا إثبات كون الحكم إنما وضع لأجل ذلك العرف، ثم ثانيا أن يتغير ذلك العرف، ويحل محله عرف آخر مخالف له، وكلا الأمرين يحتاج إلى نظر، وتحر، واجتهاد؛ قال القرافي: “وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا”[55].
وغاية قاعدة مراعاة العرف؛ تنبّه المفتي للعوائد التي تتغير وتتجّدد خصوصا في مسائل المعاملات؛ لأن الأحكام المنصوصة المرتبة على العوائد تتغير عند انتقال العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة؛ قال القرافي مبينا هذا الأصل، وهو يخاطب المجتهد المفتي: “وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدّد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”[56].
ومما يندرج في هذه القاعدة: معرفة العرف اللغوي عند المستفتي. قال ابن القيم: “لا يجوز له أن يفتي في الأقارير والأيمان والوصايا، وغيرها مما يتعلَّق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرفَ أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضل؛ فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم وعند طائفة اسم لاثني عشر درهمًا، والدرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطيه إياها أو أصدقها امرأته لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة…”[57].
ومن ذلك أيضا: معرفة قصد المستفتي دون الاكتفاء بظاهر لفظه. قال القرافي: “ينبغي للمفتي أن لا يأخُذَ بظاهرِ لفظِ المستفتي العاميّ حتى يَتبيَّن مقصودَه، فإِنَّ العامَّة ربما عبَّروا بالألفاظ الصريحة عن غير مدلول ذلك اللفظ، ومتى كان حالُ المستفتي لا تَصْلح له تلك العبارة ولا ذلك المعنى، فذلك رِيبةٌ ينبغي للمفتي الكشفُ عن حقيقة الحال كيف هو؟ ولا يَعتمد على لفظِ الفُتيا أو لفظِ المستفتي، فإِذا تحقَّقَ الواقعَ في نفس الأمر ما هو؟ أفتاه، وإِلا فلا يُفتيه مع الرِّيبة. وكذلك إذا كان اللفظُ ما مثلُه يسألُ عنه، ينبغي أن يستكشف، ولا يُفتيَ بناءً على ذلك اللفظ، فإِنًّ وراءه في الغالب مَرمى هو المقصود، ولو صَرَّحَ به امتنَعتْ الفُتيا”[58].
وبعد إجالة النظر في أهلية المفتي ومراعاته لأحوال المستفتين عند تنزيل الأحكام؛ نقدّم موجزا لأهم النتائج والخلاصات التي انتهى إليها البحث؛ وهي كالآتي:
[1] سورة النساء الآية رقم: 58.
[2] الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، (دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417هـ – 1997م)، ج: 5، ص: 257.
[3] نور البصر في شرح المختصر أو إتحاف المقتنع بالقليل في شرح مختصر خليل، أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي، تحقيق عبد الكريم قبول، الدار البيضاء (دار الرشاد الحديثة، الطبعة الأولى، 1434هـ – 2013م) ج: 1، ص: 232.
[4] ينظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، برهان الدين إبراهيم بن فرحون، (مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة الأولى، 1406هـ – 1986م)، ج: 1، ص: 74. ومنار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى، شمس الدين إبراهيم اللقاني، تقديم وتحقيق عبد الله الهلالي، الرباط (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، د.ط، 2002) ص: 240-241. ونور البصر، ج: 1، ص: 232-233.
[5] الموافقات، الشاطبي، ج:5، ص: 91.
[6] نفسه، ج: 5، ص: 276.
[7] سورة النحل، الآية رقم: 116.
[8] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، بيروت (دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1416هـ – 1995م) ص: 243-244.
[9] نور البصر، ج: 1، ص: 236-238.
[10] مسائل أبي الوليد ابن رشد الجد، تحقيق: الحبيب التجكاني، المغرب (دار الآفاق الجديدة، الطبعة الثانية، 1993م)، ج: 2، ص 1322.
[11] أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك، أبو بكر الكشناوي، بيروت (دار الفكر، الطبعة الثانية)، ج: 3، ص: 197.
[12] ينظر: الآيات البينات، العبادي، ج: 4، ص: 343، ونشر البنود على مراقي السعود، ص: 317.
[13] ينظر: الآيات البينات، ج: 4، ص: 343.
[14] نور البصر، ج: 1، ص: 238.
[15] تبصرة الحكام، ج: 1، ص: 76.
[16] الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية، محمد بن محمد المرير التطواني، تطوان (دار النشر المغربية، 1951م)، ج: 1، ص: 354.
[17] ينظر: منار السالك إلى مذهب الإمام مالك، أحمد السباعي الرجراجي، فاس (المطبعة الجديدة، الطبعة الأولى، 1359هـ-1940م) ص: 43 وما بعدها.
[18] نظم المعتمد من الأقوال والكتب في المذهب المالكي، محمد النابغة الغلاوي، تحقيق لخضر بن قومار، بحث مقدم لنيل درجة الماجستر في العلوم الإسلامية، تخصص الفقه والأصول، الجزائر (جامعة الخضر باتنة، السنة الجامعية، 2004م – 2005م)، ص: 93.
[19] فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، أبو عبد الله محمد بن أحمد عليش، (دار المعرفة، د.ط.ت)، ج: 1، ص: 74.
[20] النوازل الجديدة الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى المسماة المعيار الجديد المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب، أبو عيسى المهدي الوزاني، تحقيق عمر بن عباد، الرباط (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى، 1996م) ج: 4، ص: 9-10.
[21] المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي؛ تحقيق جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي، الرباط (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى، 1981م) ج: 4، ص: 116.
[22] فتاوى الإمام الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق محمد أبو الأجفان، (الطبعة الثانية، 1406هـ-1985م)، ص: 176.
[23] نفسه، ص: 119.
[24] المعيار، ج: 4، ص: 293.
[25] النوازل الجديدة الكبرى، ج: 3، ص: 607.
[26] فتاوى الإمام الشاطبي، ص: 176.
[27] فتاوى قاضي الجماعة أبي القاسم بن سراج الأندلسي، تحقيق محمد أبو الأجفان، بيروت (دار ابن حزم، الطبعة الثانية، 1427هـ – 2006م) ص: 67.
[28]ينظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص: 244-245، وجامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، أبو القاسم البرزلي، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، بيروت (دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2002م) ج: 1، ص: 79. ومنار أصول الفتوى، ص: 335-337. ونور البصر، ج: 1، ص: 247-255.
[29] نور البصر، ج: 1، ص: 249-254.
[30]مختصر العلامة خليل، ضياء الدين خليل بن إسحاق الجندي، تحقيق أحمد جاد، القاهرة (دار الحديث، الطبعة الأولى، 1426هـ – 2005م) ص: 11.
[31] تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام، أبو بكر محمد بن عاصم، تحقيق محمد عبد السلام محمد، القاهرة (دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى، 1432هـ – 2011م) ص: 17.
[32] تنبيه الطالب لفهم ألفاظ جامع الأمهات لابن الحاجب، أبو عبد الله محمد بن عبد السلام، تحقيق انتصار المهدي التومي، بيروت (دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1440 هـ – 2018 م) ج: 13، ص: 109.
[33] المعيار، ج: 1، ص: 103.
[34] نفسه.
[35] المختصر الفقهي، أبو عبد الله محمد بن عرفة، تحقيق حافظ عبد الرحمن محمد خير، (مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية، الطبعة الأولى، 1435 هـ – 2014 م)، ج: 9، ص: 92.
[36] إعلام الموقعين عن رب العالمين، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم، بيروت (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411هـ – 1991م) ج: 4، ص: 157.
[37] الموافقات، ج: 5، ص: 14.
[38] فقه الواقع بين الأخذ بالدليل ومراعاة التنزيل، عبد الحميد العلمي، سلا (مطبعة أمين كراف، الطبعة الأولى، 1441هـ – 2020م) ص: 42.
[39] الموافقات، ج: 5، ص: 25.
[40] نفسه، ج: 1، ص: 332.
[41] الفكر السامي، ج: 2، ص 571.
[42] وأصل هذا التصنيف للعلامة عبد الله بن بيه في كتابه: صناعة الفتوى وفقه الأقليات، العلامة عبد الله بن بيه، (مركز الموطأ، الطبعة الثالثة، 2018م)، ص: 223-224.
[43] الموافقات، ج: 3، ص: 566.
[44] الموافقات، ج: 5، ص: 177-178.
[45] نفسه، ج: 5، ص: 182-193.
[46] نفسه، ج: 5، ص: 187.
[47] فقه الواقع بين الأخذ بالدليل ومراعاة التنزيل، ص: 44.
[48] اختلف العلماء في تعريف الاستحسان؛ فقيل: الأخذ بأقوى الدليلين المتعارضين. وقيل: ترك القياس، وعدم طرده؛ إذا كان سيؤول إلى مخالفة المقاصد العامة للشريعة، وقيل: العدول عن الدليل إلى العادة، وقيل: دليل يقذفه الله في ذهن المجتهد؛ لكنه يعجز عن إظهاره والتعبير عنه. وقيل غير ذلك.
[49] الموافقات، ج: 5، ص: 194.
[50] الموافقات، ج: 5، ص: 199-200.
[51] ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن عرفة الدسوقي، (دار الفكر، د.ط.ت)، ج: 4، ص: 2. والمبسوط، محمد بن أحمد السرخسي، (مطبعة السعادة، د.ط.ت)، ج: 13، ص: 14. ومنحة الخالق، ابن عابدين الحنفي، (د.ط.ت)، ج: 7، ص: 150.
[52] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص: 218-219.
[53] أنوار البروق في أنواء الفروق المعروف بالفروق، شهاب الدين القرافي، (عالم الكتب، د.ت.ط)، ج: 1، ص: 45. وينظر: المواق في شرحه للمختصر، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك، أبو بكر الكشناوي، ج: 2، ص: 145.
[54] عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، ابن شاس، تحقيق: حميد بن محمد لحمر، بيروت (دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى: 2003م)، ج: 2، ص: 658.
[55] أنوار البروق في أنواء الفروق، شهاب الدين القرافي، ج: 1، ص: 176.
[56] نفسه، ج: 1، ص: 176-177.
[57] إعلام الموقعين، ابن القيم، السعودية (دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: 1423 هـ)، ج: 6، ص: 151 – 153.
[58] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، القرافي، ص: 236 – 237.