تظل الخطب الملكية السامية مدخلا أساسيا للإصلاح الهيكلي، وإطارا مرجعيا هاما لتحديد معالم السياسات والبرامج العمومية، وتجسيد الرؤى والتصورات التي تؤطر توجهات الدولة. إنها خارطة الطريق التي تشخص مظاهر وسمات الأوراش والإصلاحات الكبرى. فهي بمثابة النبراس الذي يُهتدى بنوره ويقتبس بضيائه في شتى الميادين والمجالات، وفي مختلف القضايا والانشغالات. ” فبالرجوع إلى الخطب الملكية يمكن معرفة الديناميات السياسية التي تعرفها البلاد، كما يمكن معرفة الأوراش الإصلاحية التي أطلقت في هذا الإطار، فضلا عن كون الخطب الملكية تعد وسيلة لتقدير حجم المنجزات ومتابعتها، وأيضا لتقسيمها من خلال تحديد الخصاصات والتحديات، إضافة إلى أن هذه الخطب تقدم للدارسين والمتتبعين نظرة واضحة حول النظام الدستوري المغربي والوظائف والأدوار الاستراتيجية للمؤسسة الملكية ومساهماتها القيادية في عمليات التشييد والبناء الديمقراطي والتنموي الوطني، وأدوارها الريادية على مستوى تعزيز الشراكة والتعاون والتضامن الدولي والإقليمي، وبالخصوص على مستوى القارة الإفريقية والفضاء العربي والمتوسطي “[1].
إن الناظر المتأمل والممعن في الخطب الملكية السامية عموما، والخطابات الموجهة إلى الأمة بمناسبة تخليد ذكرى ثورة الملك والشعب على وجه الخصوص، لا يجد صعوبة في استجلاء مضامينها بشمولية ودقة، ويتبين بسهولة ويسر دلالاتها وأبعادها المتعددة، كما يدرك أيضا أن مضامين هذه الخطب (ثورة الملك والشعب)، وإن تعددت وتنوعت، فإنها لا تتباين، بل تتطابق وتتجانس فيكمّل بعضها الآخر. وهي في مجملها لا تستثني قضيتين محوريتين شكلتا بؤرة اهتمام وعناية صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، وهما قضية الوحدة الترابية، والمشروع التنموي الوطني.
ظلت قضية الصحراء المغربية من الأولويات التي حرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، على إيلائها اهتماما خاصا، إذ ما انفك جلالته يعلن رفضه القاطع لكل مشروع يستهدف المس بالوحدة الترابية للمملكة وسيادتها، أو يعتزم تهديد سلمها واستقرارها، فهي تشكل بالنسبة لجلالته جوهر الوحدة الوطنية وقضية كل المغاربة، الأمر الذي يستوجب على الجميع، كل من موقعه ودرجة مسؤوليته، مواصلة التعبئة واليقظة للدفاع عن الوحدة الوطنية والترابية، وذلك انطلاقا من إيمان جلالته الراسخ أن مصدر القوة في الدود عن حمى الوطن يتجلى في إجماع كل مكونات الشعب المغربي حول مقدساته، على اعتبار أن قضية الصحراء المغربية ليست فقط مسؤولية ملك البلاد، وإنما هي أيضا قضية جميع الأطراف المشكلة للأمة.
وتكمن أهمية هذه القضية، في كون أنها تعتبر، إلى جانب كونها ملفا سياديا بامتياز، “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات.“[2]، إذ من خلال هذا الملف تستطيع المملكة المغربية إعادة رسم معالم سياستها الخارجية، وتحديد توجهاتها الاستراتيجية وعلاقاتها الاقتصادية والتجارية .علما أن الدبلوماسية المغربية تمكنت بفضل الرؤية الحكيمة والمتبصرة لقائد البلاد أن تحقق توازنات هامة على المستويين الدولي والإقليمي، اتسعت على إثرها قاعدة الاعتراف بنجاعة مقترح الحكم الذاتي الذي يعتبر الحل الوحيد والأوحد للنزاع المفتعل حول مغربية الصحراء . فهو مقترح ينضوي على مضمون جوهري وذي مصداقية من جهة كونه يراعي الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للجهة، ويحترم المعايير الدولية في مجال الحكم الذاتي، فضلا عن كونه يعد جزءا لا يتجزأ من التوجه الملكي الرامي إلى بناء مجتمع ديمقراطي حداثي ومنفتح.
إنه مقترح يستمد قوته من المسار التشاوري القائم على الديمقراطية التشاركية والفعالية. ففي الوقت الذي يحرص فيه مقترح الحكم الذاتي على الحفاظ على سيادة المملكة، فإنه يخول لجهة الحكم الذاتي صلاحيات واسعة.
وقد تجسدت نجاعة الدبلوماسية المغربية في تزايد عدد الدول التي سحبت اعترافها بالكيان الوهمي، وإقدام دول أخرى على فتح مقرات لقنصلياتها بالمناطق الجنوبية، وفي ذلك دلالة قوية تتمثل، من جهة، في احتكام هذه الدول إلى الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، ومن جهة ثانية، أنها لمست الجدية والمصداقية في الاختيار السياسي المغربي.
يقول جلالة الملك –حفظه الله-: “لقد تمكنا خلال السنوات الأخيرة، من تحقيق إنجازات كبيرة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لصالح الموقف العادل والشرعي للمملكة، بخصوص مغربية الصحراء.وهكذا، عبرت العديد من الدول الوازنة عن دعمها، وتقديرها الإيجابي لمبادرة الحكم الذاتي، في احترام لسيادة المغرب الكاملة على أراضيه، كإطار وحيد لحل هذا النزاع الإقليمي المفتعل. فقد شكل الموقف الثابت للولايات المتحدة الأمريكية حافزا حقيقيا، لا يتغير بتغير الإدارات، ولا يتأثر بالظرفيات. كما نثمن الموقف الواضح والمسؤول لجارتنا إسبانيا، التي تعرف جيدا أصل هذا النزاع وحقيقته. وقد أسس هذا الموقف الإيجابي، لمرحلة جديدة من الشراكة المغربية الإسبانية، لا تتأثر بالظروف الإقليمية، ولا بالتطورات السياسية الداخلية.وإن الموقف البناء من مبادرة الحكم الذاتي، لمجموعة من الدول الأوروبية، منها ألمانيا وهولندا والبرتغال، وصربيا وهنغاريا وقبرص ورومانيا، سيساهم في فتح صفحة جديدة في علاقات الثقة، وتعزيز الشراكة النوعية، مع هذه البلدان الصديقة. وبموازاة مع هذا الدعم، قامت حوالي ثلاثين دولة، بفتح قنصليات في الأقاليم الجنوبية، تجسيدا لدعمها الصريح، للوحدة الترابية للمملكة، ولمغربية الصحراء. ولا يسعنا بهذه المناسبة، إلا أن نجدد عبارات التقدير، لإخواننا ملوك وأمراء ورؤساء الدول العربية الشقيقة، وخاصة الأردن والبحرين والإمارات، وجيبوتي وجزر القمر، التي فتحت قنصليات بالعيون والداخلة.كما نشكر باقي الدول العربية، التي أكدت باستمرار، دعمها لمغربية الصحراء، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي ومصر واليمن. ونود هنا، أن نعبر أيضا عن اعتزازنا بمواقف أشقائنا الأفارقة، حيث قامت حوالي 40 في المئة من الدول الإفريقية، تنتمي لخمس مجموعات جهوية، بفتح قنصليات في العيون والداخلة. وتشمل هذه الدينامية أيضا، دول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، حيث قامت العديد منها، بفتح قنصليات في الصحراء المغربية؛ وقررت دول أخرى توسيع نطاق اختصاصها القنصلي، ليشمل الأقاليم الجنوبية للمملكة.”[3]
من منطلق اقتناع جلالته التام، بأن النموذج التنموي هو نقطة انطلاق نحو مشروع مجتمعي من شأنه أن يحد من الفوارق المجالية ويقلل منها، على أساس المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنات والمواطنين، ويساهم بالتالي في إرساء جهوية متقدمة قادرة على النهوض بكل جهة، فقد شدّد جلالته، في جل الخطب الموجهة إلى الأمة بمناسبة تخليد ذكرى ثورة الملك والشعب، على ضرورة إشراك كل طاقات وكفاءات الأمة في المشروع التنموي الوطني، وجعل المواطن في صلبه باعتباره دعامة أساسية لكل نموذج تنموي، وأحد المكونات الأساسية للرأسمال غير المادي.
يقول جلالته في خطابه السامي: “لقد حرصنا على جعل المواطن المغربي في صلب عملية التنمية، والغاية الأساسية منها. واعتمدنا دائما، مقاربة تشاركية وإدماجية، في معالجة القضايا الكبرى للبلاد، تنخرط فيها جميع القوى الحية للأمة”[4].
ويقول في سياق آخر: “وإننا نتطلع أن يشكل النموذج التنموي، في صيغته الجديدة، قاعدة صلبة، لانبثاق عقد اجتماعي جديد، ينخرط فيه الجميع: الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيآت سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية، وعموم المواطنين. كما نريده أن يكون عماد المرحلة الجديدة، التي حددنا معالمها في خطاب العرش الأخير: مرحلة المسؤولية والإقلاع الشامل.
شعبي العزيز،
إن الغاية من تجديد النموذج التنموي، ومن المشاريع والبرامج التي أطلقناها، هو تقدم المغرب، وتحسين ظروف عيش المواطنين، والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية”[5].
وجاء في خطاب آخر: “إن هذا الوضع يتطلب تطوير مجموعات ومقاولات قوية، تعزز مناعة الاقتصاد الوطني، سواء لمواجهة المنافسة الدولية، أو من أجل تطوير شراكات مع المقاولات الصغرى، للنهوض بالتنمية، على المستوى الوطني.”[6]
لقد حرص جلالة الملك على جعل النموذج التنموي هدفا استراتيجيا يتوخى تحقيق إقلاع تنموي مستدام يكون حافزا لسيرورة التغيير والإصلاح الرامي إلى تجديد المنظومة الاجتماعية وجعلها من جهة ، مسايرة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، ومن جهة أخرى، مواكبة للتطلعات المستقبلية، وذلك عبر الاستراتيجيات التالية:
الخطاب الملكي خطاب حمّال للمعاني والدلالات العميقة، مشحون بالرؤى والأغراض، غاصّ بالمقاصد، يضمر أكثر مما يصرح، يقتضي متقبلا لا يطلب المعنى من ظاهر التركيب، بل يغوص في باطن المتن لاستقصاء الأبعاد .
ولا تخرج الخطب السامية التي ألقاها جلالة الملك تخليدا لذكرى ثورة الملك والشعب عن هذا الوصف، فقد جاءت حبلى بالمقاصد والمعاني والدلالات، ونحن عندما نستقريها فإنها تمدنا بمجموعة من الأبعاد التي تأخذ مظاهر متعددة، من جملتها الأبعاد الإنسانية.
شكلت الكرامة إحدى الغايات السامية التي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس يشدد على صونها وحفظ عزتها، عبر ترسيخ لوازمها ومتطلباتها المتمثلة أساسا في تمتيع الجميع، دون استثناء، بالأمن والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، وذلك لإيمان جلالته الراسخ بأن الكرامة قيمة إنسانية أوسع من منظومة الحقوق، فهي مكون لكينونة الإنسان الوجودية ومشتل تستنبت فيه كل القيم، كما أنها مدخل أساس لوحدة الوطن وأمنه واستقراره، والمرتكز الذي يقوم عليه المشروع المجتمعي الديمقراطي. فكرامة الوطن رهينة بكرامة المواطن، فإذا تحققت هذه الأخيرة، قوي بنيان الوطن وصحّ عمرانه وساد إشعاعه، وإن انتفت كرامة المواطن، كان العمران بقدر ما تحصل منها.
لقد حرص جلالة الملك منذ توليه مقاليد الحكم ورعاية شؤون الأمة، على تكريس مقومات المواطنة الكريمة وضمان الحقوق والحريات، ونبذ كل أشكال التمييز والممارسات المهينة للكرامة الإنسانية، يقول جلالة الملك:” سيظل المغرب وفيا لالتزاماته الدولية مواصلا بقيادتنا مسيرة إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي بإيمان وثبات وإصرار. وسيجد خديمه الأول في مقدمة المتصدين لكل من يريد الرجوع به إلى الوراء، وفي طليعة السائرين به إلى الأمام، لكسب معركتنا الحقيقية ضد التخلف والجهل والانغلاق. وهذا ضمن استراتيجيتنا الشمولية المتكاملة الأبعاد بما فيها الجانب السياسي والمؤسسي والأمني المتسم بالفعالية والحزم في إطار الديمقراطية وسيادة القانون. والجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي يتوخى تحرير المبادرات وتعبئة كل الطاقات لخدمة التنمية والتضامن. والجانب الديني والتربوي والثقافي والإعلامي لتكوين وتربية المواطن على فضائل الانفتاح والحداثة والعقلانية والجد في العمل والاستقامة والاعتدال والتسامح. وسنظل حريصين أشد ما يكون من الحرص على نهج السياسات اللازمة لتفعيل هذه الاستراتيجية هدفنا الأسمى في ذلك تعزيز كرامة المواطن وتحصين الوطن وضمان إشعاعه الدولي بعون الله وتوفيقه.”[7]
إن تأكيد جلالته الدائم على هذا البعد الانساني يأتي في ظل الإمامة العظمى، القائمة على البيعة المتبادلة، والميثاق الراسخ بين الراعي والرعية، كما يندرج ضمن مقتضيات إمارة المؤمنين التي تدرك أن الكرامة الإنسانية مقصد من المقاصد الأخلاقية للشريعة الإسلامية، فهي مرتبطة بكليات الشريعة الخمس وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ العرض وحفظ المال.
من هذا المنطلق وضع أمير المؤمنين الكرامة في صلب اهتماماته، جاعلا إياها قيمة إنسانية سامية لا قيمة تعلو عليها.
وتتجلى مظاهر الاهتمام الملكي بكرامة المواطن في مجموعة من الخطب الموجهة إلى الأمة، والتي دعا فيها جلالته إلى تنزيل مخرجات المشاريع التنموية، وإشراك المواطن فيها مع توفير الإمكانات التي تصون كرامته وتعمل على تحقيق أقصى المنافع له، وتضمن له سبل العيش الكريم .
جاء في الخطاب الملكي السامي قول جلالته: “شعبي العزيز، نحتفل اليوم، بالذكرى الخامسة والخمسين لثورة الملك والشعب الخالدة باعتبارها ملحمة تاريخية، من أجل استقلال الوطن.
لقد جسدت هذه الثورة، نموذجا لا مثيل له، لتلاحم ملك بشعبه وتعلق شعب بملكه، في كفاح مشترك، من أجل الحرية والكرامة. وبلغت الملحمة أوجها، عندما آثر جدنا المقدس، المغفور له، جلالة الملك محمد الخامس، المنفى السحيق عن الوطن، والإبعاد عن العرش رافضا، بكل صمود وثبات على المبدإ، التفريط في سيادة الأمة، أو المساومة فيها.”[8] وجاء في الخطاب السامي بتاريخ 20 غشت 2015م: ” شعبي العزيز، إذا كنا نعتبر خدمة المواطن هي الغاية من كل السياسات الوطنية، فإننا نضع ضمان أمنه وسلامته، في صدارة انشغالاتنا.”
وذكر جلالته في خطاب 2019 ما يلي: “لقد قامت ملحمة 20 غشت المجيدة، من أجل تحرير الوطن واستقلاله. كما تعززت بالجهاد الأكبر، الذي نخوضه، في سبيل تقدم ورخاء المواطن المغربي. وإننا ملتزمون بمواصلة حمل مشعلها، وفي ذلك خير وفاء لأرواح شهداء الوطن الأبرار، وأكبر دافع لتكريم أبناء شعبنا الوفي، والتجاوب مع تطلعاتهم المشروعة.“
تزخر الخطب الملكية بجملة من الأساليب البلاغية والتراكيب الرمزية ذات الأبعاد والدلالات البليغة، والتي أضفت على هذه الخطب لمسة إبداعية وجمالية.
وتتبوأ الإشاريات الشخصية والمؤشرات القولية ذات الطابع الأخلاقي صدارة هذه التراكيب، فهي ليست فقط متواليات لسانية ينحصر دورها في الربط والوصل بين الجمل والفقرات، بل هي إفصاح رمزي يضطلع بوظائف تداولية وتختزن حمولات ثقافية واجتماعية وحضارية أكثر عمقا ورحابة.
إن توظيف مركبات إضافية، في الخطب الملكية الموجهة إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، من قبيل “شعبي العزيز“، “الشعب الأبي“[9] و”الشعب المغربي المخلص“[10]، وكذا تواتر أدوات إشارية مثل “بيني وبينك” في العبارات التالية : “كما نؤكد العهد المشترك بيني وبينك -شعبي العزيز- على مواصلة حمل مشعل الثورة المتجددة للملك والشعب.”[11] وقول جلالته أيضا :” فمنذ تولينا العرش، حرصنا على أن يكون التجاوب التلقائي بيني وبينك، عماد بناء مجتمع متقدم ومتماسك، يتسع لكل أبنائه، ويعتز كل مغربي ومغربية بالانتماء إليه.”[12]، وأيضا ورود ضمائر الجمع بدل ضمائر المفرد، كل هذه العناصر اللغوية ترمز وتحيل لامحالة إلى معان عميقة ، فهي من جهة تشير إلى غياب التراتبية والهرمية وانتفاء المسافة بين الملك والشعب في إطار الإبقاء على الاحترام والتوقير الواجب للملك ، ومن جهة ثانية تثمن رابطة المحبة بين العرش والأمة، ومن جهة ثالثة تجسد التأدب الأقصى والتواضع الأسمى الذي يتمتع به جلالته، وهما تأدب وتواضع مشمولان بالتلطف والتعفف والإخلاص.
لقد ذهب البلاغيون وعلماء اللغة إلى أن القواعد الأخلاقية التي تحكم التفاعلات الكلامية من شأنها أن تتجاوز قواعد اللغة، على اعتبار أن الفعل الكلامي ليس مجرد تلفظ، وإنما هو إرادة صادرة عن متكلم يبتغي من خلالها حمل مخاطب على إنجاز فعل معين، وفق ما تقتضيه سيرورة الخطاب التي لا تقف عند حدود القول والتبليغ والإفهام، بل تتعدى ذلك إلى قواعد التأدب والتهذيب. “فلما كان التخاطب يقتضي إشراك جانبين عاقلين في إلقاء الأقوال وإتيان الأفعال، لزم أن تنضبط هذه الأقوال بقواعد تحدد وجوه فائدتها الإخبارية، أو قل فائدتها التواصلية، نسميها بقواعد التبليغ، كما لزم أن تنضبط هذه الأفعال بقواعد تحدد استقامتها الأخلاقية، أو قل التعاملية نسميها بقواعد التهذيب”[13].
نستشف مما سبق أن تواتر عبارة شعبي العزيز ومثيلاتها، تعد تداوليا مؤشرا ودليلا على مدى الترابط الوثيق بين العرش والأمة، وهو ترابط يصل إلى حد التشارك في الإحساس والفعل، ونستأنس في توضيح ذلك بما جاء في الخطاب الملكي السامي: “شعبي العزيز … لقد تمكنا خلال السنوات الأخيرة، من تحقيق إنجازات كبيرة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لصالح الموقف العادل والشرعي للمملكة، بخصوص مغربية الصحراء“[14].
وقوله أيضا: “شعبي العزيز، إن روح ثورة 20 غشت الخالدة، بما تحمله من معاني التضحية والتضامن والوفاء، في سبيل الوطن، ستبقى تنير طريقنا، وتلهم الأجيال المتعاقبة، في ظل الوحدة الوطنية والترابية، والأمن والاستقرار“[15].
إن استعمال ضمير الجمع في الخطب السامية ليس الغرض منه التعظيم والتفخيم، بل إن الغاية هي إظهار المشاركة والقرب والتأدب والتواضع. فقد ذكر طه عبد الرحمن أن استعمال ضمير الجمع بدل ضمير المفرد يراد به الدلالة على المشاركة والقرب وجعل ” المتكلم ناطقا باسمه وباسم غيره، ولا غير أقرب إليه من المخاطَب، حتى كأن هذا المخاطب عالِم بما يخبره به المتكلم ومشارك له فيه، فيكون ضمير الجمع، من هذه الجهة، أبلغ في الدلالة على التأدب والتواضع من صيغة المفرد، ولا دلالة له إطلاقا على تعظيم الذات ولا على الإعجاب بالنفس”.[16]
علاوة على هذين البعدين، ومن منطلق إرادة جلالته الأكيدة في استعادة اللحمة العربية وتوطيد علاقات الجوار، تجلى بعد إنساني آخر يتجسد في حرص الملك على تعزيز سلوك التلاحم والتآزر بين مكونات الأمة العربية، وتثمين علاقات التضامن والتعاون بين المغرب والجزائر إذ ما فتئ جلالته يجدد الدعوة في كل مناسبة لنبد الخلاف وفتح صفحة جديدة لما يجمع بين الشعبين من روابط إنسانية ومصير مشترك . يقول جلالة الملك في خطابه السامي: “وما أحوجنا اليوم، في ظل الظروف الراهنة، التي تمر بها الشعوب العربية، والمنطقة المغاربية، لتلك الروح التضامنية، لرفع التحديات التنموية والأمنية المشتركة.
وإننا نتطلع لتجديد الالتزام، والتضامن الصادق، الذي يجمع على الدوام الشعبين الجزائري والمغربي، لمواصلة العمل سويا، بصدق وحسن نية، من أجل خدمة القضايا المغاربية والعربية، ورفع التحديات التي تواجه القارة الإفريقية“[17].
إنها دعوة من جلالته لتجاوز الخلاف وإعادة العلاقات على أسس متينة تتجاوز مخلفات الاستعمار، وتعمل على تحقيق التنمية والرفاهية للشعبين الشقيقين.
اعتمادا على ما سبق، تسجل الخطب الملكية السامية، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، فخر حضارة أمة عريقة، حريصة على جعل المواطن المغربي في صلب اهتماماتها، فهي تعكس ترابطا روحيا قويا بين جلالة الملك وجميع مكونات الوطن، لاستكمال مسيرة النماء والتقدم والرخاء.
[1] – الهيبة (المحجوب)، كتاب حقوق الإنسان في الخطب والرسائل الملكية السامية، 1999-2016م، صادر عن المندوبية السامية المكلفة بحقوق الإنسان، نونبر 2016م، ص 18.
[2] مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب لسنة 2022م .
[3] مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب لسنة 2022م.
[4] مقتطف الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2019م.
[5] المرجع نفسه.
[6] مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب، 2014م.
[7]– مقتطف من الخطاب الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة إثر الاعتداء الإرهابي الذي ضرب مدينة الدار البيضاء، بتاريخ 29 ماي 2003م.
[8] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2008م.
[9] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2000م.
[10] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 1999م.
[11] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2011م.
[12] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2014م.
[13] – شفطر ( إيهاب سعد)، الاستراتيجية التضامنية في قصة شعيب في القرآن الكريم، مقاربة تداولية، مجلة كلية الآداب والعلوم، المجلد 14، العدد 1، 2022م، ص 1829.
[14] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2022م.
[15] المرجع نفسه.
[16] – عبد الرحمن (طه)، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ، المغرب، ط 1، 1998م، ص5.
[17] – مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 2016م.