بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا يخفى ما لمناسبة عيد العرش المجيد من مكانة في قلوب المغاربة، وما يخصونها به من إجلال وتقدير، وما يزفونه لها من مختلف الأنشطة الثقافية والاجتماعية وغيرها، المعبرة عن إيلائهم لهذه المناسبة ما تستحق من الاهتمام والعناية؛ لذلك فهي محل اهتمام مختلف الفئات الاجتماعية، التي دأبت على التطلع لحلول هذه الذكرى المجيدة، لجلوس مولانا أمير المومنين على عرش أسلافه المنعمين، وإعداد ما يناسبها من البرامج المتنوعة، للاحتفال بها احتفالا يكتسي صبغة خاصة من التعبير عن الأفراح والمسرات، والشعور المفعم بقيمة الحدث، والسعي في الرفع من شأنه وإشعاعه؛ ليصل صداه للقريب والبعيد، إدراكا لمقصده الجليل، ومجده الأثيل، ورباطه المقدس النبيل، المتمثل في ثابت إمارة المومنين، الجامع لشمل المغاربة أجمعين، السائرين في ركب من ولاه الله تعالى أمرهم، وأطاعوه امتثالا لأمر ربهم؛ القائل في محكم كتابه العزيز: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم﴾.[1]
وهذا النداء الإلهي الموجه للذين آمنوا بأن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول وأولي الأمر منهم، الوارد قبله الأمر بالوفاء بالأمانة وأدائها إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، ورد المتنازع فيه إلى الله ورسوله، هو تخصيص الخطاب بأهل الإيمان النجباء الكمل، الذين تحققوا مقاصد أوامر الله تعالى ونواهيه، لا سيما ما يتعلق منها بالشؤون الجليلة، والمقاصد النبيلة، التي تبنى عليها مصالح الدنيا والدين، ويستقيم بها أمر المسلمين، “وعلى ذلك أمر الملوك في الأمور، يريدون اشتراك الرعية وأهل المملكة في ذلك؛ كقوله سبحانه: ﴿قالت يا أيها الملأ﴾،[2] وقال سليمان عليه السلام: ﴿قال يا أيها الملأ﴾[3] ونحو ذلك.”[4]
قال مكي بن أبي طالب: “واختار أهل النظر أن يكون خطابا لولاة أمور المسلمين، أن يؤدوا الأمانة بما ائتمنوا عليه من أمور المسلمين في أحكامهم، والقضاء في حقوقهم بكتاب الله، والقسم بينهم بالسوية، ويدل على صحة ذلك أن الله تعالى أمر المسلمين بطاعتهم بعد ذلك فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم﴾[5]، فحض الولاة على العدل والإنصاف بين المسلمين، وحض المسلمين على طاعة الولاة.”؛[6]
وروي عن الإمام علي رضي الله عنه قوله: «حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك، فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا»؛[7] قال إمام الحرمين: “ولا معنى لكون الإمام إماما؛ إلا أنَّ طاعته واجبة”؛[8] فإن من أسلمت له الأمة زمامها، وأسلست له قيادها، وجبت طاعته عليها، في كل ما يستلزمه الأمر من جهتها، فذاك هو الحق الثابت المتعين، الذي لا يسوغ رده ولا إنكاره؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا اَن تكون لهم الخيرة من اَمرهم﴾[9]
والمملكة المغربية الشريفة، كانت وما زالت بحمد الله تعالى ومنته، محافظة في تدبير أمرها وتصريف شأنها، على “ما تُحفظ به الشريعة، تشييداً لركن المُلك، الذي به تحفظ الضروريات الخمس، المتفق على رعايتها في جميع الشرائع: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ لأن مصالح الدين والدنيا، مبنية على المحافظة عليها، بحيث لو انخرمت، لم يبق للدنيا وجود، من حيث الإنسان المكلف، ولا للآخرة من حيث ما وعد بها، فلو عُدم الدين، عُدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عُدم الإنسان، لعُدم من يتدين، ولو عُدم العقل، لارتفع التدبير، ولو عدم النسل، لم يمكن البقاء عادة، ولو عدم المال، لم يبق عيش.”[10]
ومن ثم كان ترسيخ أصالة ثابت إمارة المومنين، لحماية الملة والدين، هدفا رئيسا من أهداف التجدد والتجديد، وربط الفرع بالأصل التليد، احتراما لما يدعو إليه الإسلام، الذي أوجب على الأمة مبايعة الإمام، اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان، وما فعله الصحابة الكرام في هذا الشان، حتى نزلت الآية في تقريظهم وإطرائهم، وحسن الثناء على صنيعهم، وهي الآية المعروفة عند العلماء بآية: “أهل البيعة”[11] التي قال الله تعالى فيها: ﴿لقد رضي الله عن المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾؛[12] “فمن رضي الله عنه لم يدخل النار أبدا”.[13]
وتبعا لمقتضيات البيعة الشرعية، التي هي العقد المنظم للعلاقة بين الراعي والرعية، والضابط لتقاسم عبء المسؤولية، في ضوء ما نصت عليه الآيات القرآنية؛ التي منها قوله تعالى: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن اَوفى بما عاهد عليه الله فسنوتيه أجرا عظيما﴾[14]؛ أي أنهم ببيعتهم إياك على المضي بهم قدما فيما يرضي الله تعالى، من إقامة الحق والعدل والإنصاف؛ إنما يبايعون الله، الذي يضمن لهم الجنة وحسن المآب، جزاء على وفائهم لك بما تعاهدوا به واستوثقوا؛
ومنها قولُه تعالى: ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون﴾؛[15]
ومنها: ﴿اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾؛[16]
ومنها: ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون﴾؛[17]
ومنها قوله سبحانه: ﴿بلى من اَوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين﴾؛[18] ومنه: ﴿يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود﴾؛[19]
ومنها قوله عز من قائل: ﴿وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾.[20]
ومن الأحاديث النبوية الشريفة: ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»[21]. وفي لفظ مسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني».[22] وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «..ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..،»[23]
و غير ذلك من الأحاديث الوافرة في هذا الباب، حتى قال فخر الدين الرازي في شأنها: “إن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء”؛ ونحن نقول: إن الأمر لا يتعلق بالمبالغة، بقدر ما يتعلق بالتأكيد على أمر يوشك أن تؤتى الأمة من قِبله، إن لم يتداركها الله بلطفه، وهو عليه الصلاة والسلام حريص على أمته، المدافع عنها في الدنيا، والشفيع فيها في الآخرة،[24]ويخشى عليها فتنة التمزق وتشتت الكلمة.
وتبقى النصوص الشرعية المؤطرة للبيعة، حاكمة على كل مسلم ومسلمة، بضرورة الانخراط في امتثال طاعة من ولاه الله تعالى أمر عباده، وبسط يده في أرضه وبلاده، فالواجب على الجميع طاعته وموالاته، ومساندته في القيام بحقّه، والوفاء بعهده، عن إيمان واقتناع، لا عن مداهنة ولا ارتياب، ولا ميل عنه إلى غيره ممن حضر أو غاب، تمسكا بأصل البيعة الشرعية، وإبراء للذمة بالوفاء بالعهد في السر والعلانية؛
على أنّ أداء هذا الواجب، والحرص على تعهده والوفاء به، لمن ولاه الله تعالى تدبير شأن أمته، وحماية دينها ودنياها، وتوفير الأمن والطمأنينة لها، يدخل في الامتثال لعبادة الله تعالى، والائتمار بأمره، فالطاعة والشكر تكون لله ولغير الله؛ لأن الطاعة امتثال، والشكر مكافأة، وأما العبادة فلا تكون إلا لله تعالى وحده دون سواه؛
فاتضح بذلك مفهوم الطاعة الذي ينبغي أن يبذله الجميع لأمير البلاد، المجمع على إسناد الأمر له في كل ناد، لا سيما وقد استقامت أمور الأمة كلها بحمد الله على يديه؟ فلم يبق لمشكك ما يسعى إليه؛ سوى التعجيل بالانخراط في الطاعة والنصرة، وإخلاص النصح والطاعة لأمير المومنين في المنشط والمكره، قياما بما يرضي الله تعالى، ودواما على ذلك إلى أن يلقى الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية»[25]
وهذا كله مبني على أن المقصد من الشريعة رعاية مصالح العباد على الإطلاق، وأن يكون عمل المكلف مبنيا على نيته موافقة مقصد الشارع من التشريع؛ وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “إن قصد الشارع من المكلف، أن يكون قصده في العمل، موافقا لقصده في التشريع، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة؛ [فهي] موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع؛ ولأن المكلف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة، هذا محصول العبادة، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة؛ وأيضا [فإن] قصد الشارع المحافظة على الضروريات، وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد؛ فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة؛ لأن الأعمال بالنيات، وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته”.[26]
وهذا الذي قررته أصول التشريع برمتها، وسار عليه أهل الحل والعقد من العلماء السابقين واللاحقين هو عين ما دأب عليه أهل المغرب، في علاقتهم مع ملوكهم الأشاوس، منذ أن ذاقوا طعم الإسلام، ورضوا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، فقد حرصوا على ارتضاء أحسن طريق، في مقوماتهم الدينية والدنيوية، وانتهجوا خير سبيل، فكانت بيعتهم دوما شرعية لا غبار عليها، مستندة إلى أصلها، بالانتساب والانسياب، وبالتوافق والتحاب، بين كافة مكونات المجتمع على ما فيه مصلحة البلاد والعباد؛ وقد قال العلماء في التحاكم للإمام الأعظم: إن رأي الإمام يحسم الخلاف، فيجب على الكافة اتباعه.[27]
ومن ثم تأتي هذه الذكرى لتتويج المتفق عليه كل عام، وتؤكد الإجماع وتحكمه أيما إحكام، وترسخ الأصالة المديدة، وتجدد الآثار الحميدة، وتعبر عن ذلك الترابط المكين، بين مولانا أمير المومنين، وحامي حمى الملة والدين، وشعبه الأبي الأمين، سيرا على نهج الأخيار، نحو كل رقي وازدهار؛ فمن أدرك أصل هذا الأمر وتحققه، وعلم مقصده وغايته؛ وانتفى عنه الريب، فلا يركن إلى مخالفة المحسوم شرعا وعقلا؛ لتعلقه “بخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، وهو أمر واجب بالإجماع، وواجب بالعقل؛ لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة، لكانوا فوضى مهملين، وهمجا مضاعين، وقد قال الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم … ولا سراة إذا جهالهم سادوا”[28]
فإمارة المومنين، أساسٌ لانتظام المعاش، وفوز المعاد، وأمن البلاد والعباد، فما بعد هذه النورانية الجلية، من خلال ما تدعو إليه الشريعة الإسلامية من اتخاذ إمام أعظم يسوس الأمة، ويدبر شأنها، ويتولى أمرها، ويكفيها همها، إلا كما قال تعالى: ﴿فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون﴾[29].
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أجرى الله الحق على لسانه وحياً وعصمةً، وكلفه بتطبيق شريعة الإسلام وتبليغها كتابا وسنة، وأوجب طاعته وجعلها من طاعته، وذلك قوله تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد اَطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا﴾،[30] وقوله سبحانه: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾؛[31] فإن الخير كل الخير في اتباع هديه وسنته، ولا داعي لمخالفته، في أمر يتعلق بحماية المهج، وتقويم العوج، ألا وهو ثابت إمارة المومنين؛ فلا تطاول الثوابت، ما دامت الحجة قائمة على الجميع بداية ونهاية؛ قال تعالى: ﴿قل فلله الحجة البالغة ولو شاء لهداكم أجمعين﴾.[32]
وقد أجاد الإمام الماوردي رحمه الله في مقدمة أحكامه السلطانية فقال: “إن الله جلت قدرته، ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة، حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني؛ لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام، متشاكل الأحكام.”[33]
وتبعه القاضي أبو بكر بن العربي مبرزا أهمية الخلافة وفائدتها والحكمة منها قائلا: “وفائدة ذلك وحكمته، أن الله سبحانه خلق الخلق في الجبلة أخيافا، يتقاطعون تدابرا واختلافا، ويتنافسون في لف الحطام إسرافا، لا يبتغون فيه إنصافا، ولا يأتمرون فيه برشد اعترافا، فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعل فيهم المملكة، وصرف أمورهم إلى تدبير واحد يزعهم عن التنازع، ويحملهم على التألف من التقاطع، ويردع الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه حقا، ويسوسهم في أحوالهم لطفا ورفقا، وأوقع في قلوبهم صدق ذلك وصوابه، وأراهم بالمعاينة والتجربة صلاح ذلك في ابتداء الأمر ومآله، ولقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فالرياسة للسياسة، والملك لنفي الملك، وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة، فأنشأ الله الخليفة لهذه الفائدة، والمصلحة على الملوك والخلفاء، كلما بان خليفة خلفه آخر، وكلما هلك ملك ملك بعده غيره؛ ليستتب به التدبير، وتجري على مقتضى رأيه الأمور، ويكف الله سبحانه به عادية الجمهور.”[34]
وبكلام هذين العالمين الجليلين، المبني على منظور الشريعة ومقاصدها؛ تتضح المصلحة المنوطة بشأن البيعة الشرعية، وما يترتب عنها من استتباب الأمن، وجريان الأمور على مقتضى ما يراه أمير البلاد من تصريف للشأن وحسن التدبير، ولا التفات لمخالف إجماع أمته، المتعالي عن وعد ربه بجنته؛ لمن وفى بعهده وبيعته؛ لأن باب السمع والطاعة للإمام؛ من أبواب اختبار المعتقد وتصحيح الالتزام، أساسه التسليم والانقياد، وإن أُمِّر على الأمة أقلُّها منزلة؛ كما جاء في صحيح البخاري عن سيدنا أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة»؛[35]
علما بأن الوصف الوارد في هذا الحديث، لم يرد مورد التحقير والتنقيص؛ وإنما ورد مورد التناهي، في وجوب السمع والطاعة لمن يُرى أنه أقل الناس درجة في التولي؛ بمعنى أنه إن وقع عليه إجماع الأمة، وجبت طاعته من غير ما تردد ولا ارتياب، رعيا للمصلحة وسدا للذرائع؛ “وإلا لبطلت حجة الله على الخلق، بفقد حملتها، والدعاة إليها، والذابين عنها، ولما صح من خبر المعصوم، من عدم اجتماعها على ضلالة، ومن أنه لا يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله”؛[36]
ويستفاد مما تحرر وتقرر، أنه لا خير في الخروج عما أجمعت عليه الأمة في دينها ودنياها؛ لأنه من الخلاف غير المرضي المنهي عنه شرعا، والموقع في الحرج والزلل، والمخالفة في الاعتقاد والقول والعمل؛ لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أوصى باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده،كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي يقول فيه: “وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: ” قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة، وإن عبدا حبشيا، عضوا عليها بالنواجذ؛ فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما انقيد انقاد”؛[37] وعند البيهقي بلفظ: “المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأُنُف، إن قيد انقاد، وإن أُنيخ استناخ على صخرة“.[38]
ومن هنا ندرك أبعاد مناسبة الاحتفال بعيد العرش المجيد، المشتملة على الأصالة والتجديد، أصالة الدين، وتجديد بيعة المواطنين لأمير المومنين، الذي به تنتظم حياتهم، وتجتمع كلمتهم، وتتحد قوتهم، وتتواصل مودتهم مع من ولاه الله أمرهم، فهو حفظه الله تعالى ورعاه، يخطو بالبلاد خطوات رشيدة، نحو النماء ومدارج الرقي والازدهار، غايته أن ينعم المغاربة كافة بالسعادة والهناء، داخل وطنهم وخارجه، فهو يستشعر أحوالهم، ويبادر إلى إصلاح شأنهم، وإمدادهم في السراء والضراء، وتلك جوانب من أخلاقه العالية، التي تشع من سيرته الغالية، فعيد عرشه المجيد، فرصة لإبراز شعبه ما يكنه له من الحب والتقدير والاحترام، من خلال تجديد الولاء، والفرحة التي تعم كل الأرجاء، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، كما تمتد إلى خارج الوطن؛ بما تشهده الجالية والسفارات المغربية في الدول الشقيقة والصديقة، من احتفال بالذكرى، لما لها من وزن خاص، ذي صلة بتربع أمير المومنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورعاه، وسدد إلى المعالي خطاه، على عرش أسلافه المنعمين، ساعيا سعيه الدؤوب، وجهده الجهيد، في البناء والتشييد، فضلا عن صيانة وحدة الأمة وجمع كلمتها، ورعاية مصالحها ولم شملها، والدفاع عن حوزتها، وحماية بيضتها، والانتصاف لمستضعفيها، والسهر على استيفاء حقوقها، وإيفائها لمستحقيها، زاده الله عزا وسؤددا، ونصرا ومددا، وحفظا وسندا بمنه وكرمه آمين، والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة النساء، الآية: 58.
[2] سورة النمل، الآية: 29.
[3] سورة النمل، الآية: 39.
[4] تأويلات أهل السنة للماتريدي (ت. 333هـ) (3: 230).
[5] سورة النساء، الآية: 58.
[6] الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكي بن أبي طالب القيرواني القرطبي، (2: 1364).
[7]معالم التنزيل في تفسيرالقرآن، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت. 510هـ)، (1: 650).
[8] غياث الأمم في التياث الظلم، لأبي المعالي عبد الملك الجويني (ت. 478هـ)، (ص: 323).
[9] سورة الأحزاب، الآية: 36.
[10] بدائع السلك في طبائع الملك، لمحمد بن علي بن محمد الأصبحي الأندلسي، شمس الدين الغرناطي ابن الأزرق (ت. 896هـ) ت. د. علي سامي النشار، (ص: 195). ط.1، وزارة الإعلام – العراق.
[11] البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين أبي المعالي عبد المالك الجويني، (1: 239).
[12] سورة الفتح، الآية: 18.
[13] الهداية إلى بلوغ النهاية (11: 6954).
[14] سورة الفتح، الآية: 10.
[15] سورة البقرة، الآية: 26.
[16] سورة البقرة، الآية: 39.
[17] سورة البقرة، الآية: 176.
[18] سورة آل عمران، الآية: 75.
[19] سورة المائدة، الآية: 1.
[20] سورة الأنعام، الآية: 153.
[21] صحيح البخاري: كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم﴾. ح. 7137 .
[22]صحيح مسلم: 33 – كتاب الإمارة، 8 – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية. ح. 32 – (1835).
[23] صحيح البخاري، ح.7138.
[24] ينظر حديث أنس في الشفاعة بطوله في الصحيحين: البخاري ح.7509، ومسلم ح. 325 – (193).
[25] صحيح مسلم، ح. 58- (1851).
[26] الموافقات، للإمام الشاطبي (3: 23، 24).
[27] التلخيص في أصول الفقه، للجويني (3: 89).
[28] الأحكام السلطانية، للماوردي (ص: 15).
[29] سورة يونس، الآية: 32.
[30] سورة النساء، الآية: 79.
[31] سورة الحشر، الآية: 7.
[32] سورة الأنعام، الآية: 150.
[33] الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت. 450هـ)، ص: 13. دار الحديث – القاهرة.
[34] أحكام القرآن لابن العربي، ط العلمية، (2: 208).
[35] الجامع الصحيح للإمام البخاري، ح. 693.
[36]الخلافة للشيخ محمد رشيد رضا القلموني الحسيني (ت. 1354هـ) (ص: 112)؛ وفي سنن ابن ماجه وغيره، من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم»./ سنن ابن ماجه (2: 1303).ح. 3950
[37] مسند الإمام أحمد، ط الرسالة، (28: 367). ح.17142. وقد تتبع طرقه وتخريجه المحقق المسند الأستاذ شعيب الأرنؤوط.
[38] شعب الإيمان للبيهقي، ح.8128.