الأستاذ يوسف الكتاني
ينفرد الإمام مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله المتوفى سنة 179هـ/795م، في تاريخ الفكر الإسلامي كله، وفي تاريخ المذاهب جميعا من بين المفكرين والمجتهدين بالريادة والأستاذية؛ لأسبقيته وعبقريته وأصالته، وللإجماع على إمامته ودينه، واقتداء الأكابر به وحاجتهم إليه، وتحريه في العلم والفتيا والحديث، وورعه فيه وإنصافـــه(1) حتى اعتبره الشافعي حجة بينه وبين خالقه، وذلك في قوله: “مالك ابن أنس أستاذي، وما أحد أَمنّ عليَّ من مالك، وقد جعلته حجة فيما بيني وبين الله”(2).
وقال عنه عبد الرحمان بن مهدي: “ما بقي على وجه الأرض أمنّ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك”(3)، واعتبر الإمام البخاري رحمه الله سنده أصح الأسانيد: مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
وقد عده ابن سعد في الطبقة السادسة من التابعين، لكونه لم يلق صحابيا على الأرجح؛ روى عن الثقات الأعلام، كأبي الزناد ونافع، وسالم بن عبد الله بن عمرو، وزيد بن أسلم، والزهري وسواهم.
وروى عنه الكثير من الرواة، كابن القاسم، وابن وهب، والثوري، والشافعي، وابن عُيَيْنة، بل روى عنه شيوخه الكبار، كربيعة بن أبي عبد الرحمان والزهري وسواهما(4).
ويكفي الإمام مالك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشّر به وبظهوره وعلمه، كما في حديث الإمام الترمذي وغيره، “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة(5)، وكان ذلك هو مصداق ما قاله عنه الإمام ابن الحكار:
تأملت علم المرتضين أولي النُّهى
فأفضلهم من ليس في جده لعب
ومن فقهه مستنبط من حديثه
رواه بتصحيح الرواية وانتخب
وما مالك إلا الهدى ولذا اهتدى
به أمم من سائر العجم والعرب(6)
1- منهجه في أصول مذهبه وأدلته.
لقد جاءت أصول مذهب الإمام مالك وأدلته واجتهاداته نابعة من البيئة التي عاش فيها، وتعلم منها، وَتَكَوّن فيها، المدينة المنورة مُهاجر الرسول عليه الصلاة والسلام، ومركز دولته الإسلامية، ومهبط الوحي، ومثواه، كما كانت تلك الأصول والأدلة مرآة صادقة للصفات والخصائص والمزايا التي تميز بها مذهب مالك رحمه الله، من السماحة واليسر، والتمسك بالكتاب وبالسنة، وترك الشذوذ في العلم، وآية ذلك كتابه الموطأ الذي يجمع بين الحديث والفقه والفتيا، والذي يعتبر أول مصنف حديثي في الإسلام(7) بل أول تدوين للحديث والفقه، وأول كتاب جمع الحديث مبوبا مدونا(8)، ومنه اقتبس الأئمة المجتهدون، وعلى هديه ومنهجه سار المؤلفون من أصحاب المذاهب وأئمة الحديث والفقه والفكر عامة.
وسمة أخرى تضاف إلى سمات مذهب مالك وخصائصه، أن أصوله وأدلته تجعل باب الاجتهاد مفتوحا في الاستنباط والتخريج دوما، وذلك حتى لا يقع بالناس ضرر وينغلق عليهم أمر دينهم، وكان هذا مظهرا من مظاهر تفوقه، وتفتح آفاقه، وكمال جوانبه وابتكاره، وحرية أحكامه، مما جعله مذهب الحياة والأحياء الذين يجدون فيه الحلول، والإصلاح لمشاكلهم وأقضيتهم، كما ذهب إلى ذلك الشيخ أبو زهرة(9).
ومن هنا كثرت أصوله وتنوعت أدلته حتى بلغت تلك الأصول سبعة عشر أصلا، وكان ذلك حسنة من حسناته ومزية من مزاياه الكبرى(10)، في حين أنها لا تزيد على الستة عند أبي حنيفة، ولا تعدو أربعة عند الشافعية(11)، بينما أوصلها السبكي والقرافي إلى خمسمائة ونيف(12) حتى قال ابن تيمية: “من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد”. ولعل كثرة أصول مذهبه وأدلته وتنوعها ظلت مرآة لتنوع مشاكل الحياة التي وجدت فيها حلولها وعلاجها، وهي التي مكنت لمذهب مالك في كثير من البلاد، ووجدت فيه بغيتها ووحدتها واستقرارها في التشريع والتنظيم، وذلك ما جعل المذهب المالكي خصبا منتصرا، مرابطا في بلادنا العزيزة لا ينازعه مذهب آخر.
إن من بين هذه الأصول والأدلة التي تميز بها المذهب المالكي والتي كانت عنوانه ومزيته، نجد أصلا أصيلا تفرد به مالك، وكان مظهر اجتهاده وفقهه ومنهجه، ذلك هو عمل أهل المدينة الذي يدفعنا التساؤل بادئ ذي بدء عن المقصد منه، وتعريفه، وأقسامه، وحجيته، والقائلين به، والمعارضين له، كي نصل إلى الغايات التي قصد مالك وأصحابه من اعتبار هذا الأصل وبنائه الأحكام عليه، وتفريع الفروع عنه.
2- المقصود بعمل أهل المدينة ودواعيه.
كان منهج الإمام مالك رحمه الله في مذهبه وفقهه واجتهاده، أنه يأخذ بكتاب الله أولا، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيها عنده: السنة القولية والفعلية والتقريرية، وما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم من الشمائل والصفات، وتشمل كذلك فتاوى الصحابة الشاملة لقول الصحابي ومذهبه، وأقضيتهم واجتهاداتهم، وهو ما يعنيه في قوله: “سنة من مضى من أهل العلم”، ومنها عمل أهل المدينة، ويعني عنده:
أ- ما قال به بعض أئمة الصحابة وكبار التابعين من أهل الحل والعقد، وهو ما يعبر به: “ما عليه العمل عندنا”.
ب- ما اتفق واجتمع عليه أهل الفتوى بالمدينة، من الصحابة وكبار التابعين، وممن عليهم الاعتماد، وفيه يقول: “هو الأمر المجتمع عليه عندنا”.
ولقد كان عمر بن عبد العزيز يجمع فقهاء المدينة، ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها، وما لا يعمل به الناس يطرحه، وكان يقال لأبي الدرداء قاضي عمر: بلغنا كذا وكذا بخلاف ما تقول، فيجيب: وأنا قد سمعته، ولكن أدركت العمل على غير ذلك، مما جعل مالكا يبني اجتهاده وفقهه على اليقين(13).
وقد اعتمد في ذلك على أسباب كثيرة منها:
– إن الدين ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى حجرها(14)، وما اختص به أهل المدينة، من فضل العلم والإيمان، والسنة والقرآن، والمدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة ومبدأ الحلال والحرام(15)، وأنه كان يرى أهل المدينة أقرب مواقع الوحي، وهم أجدر بأن يحافظوا على ما سمعوه وشاهدوه وتعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأن ما جرى عليه أهل المدينة لا يبعد أن يكون الرسول اطلع عليه، وسكت عنه، وأقرهم عليه، وأن الرسول لبث في أهل المدينة عشرا يوحى إليه، وبها أقام دولته، وبنى قواعدها، ودبر شؤون المسلمين.
– إن صحابته بعده لم يغيروا شيئا من ذلك، تابعوا واقتدوا به في عمله وهديه.
وأن المدينة مركز الخلافة ومقرها، في عهد الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة، وهم أكثر عددا، وأوسع علما وأعلم بسلوك نبيهم.
وأن أبا بكر لما ولي الخلافة كان قبل أن يقضي بين الناس يجمع الصحابة فيما يعرض له من المسائل وبفتاويهم يقتدي، وعليها يعتمد، وهم مستشاروه في العلم والعمل معا، وقد تابعه عمر وعثمان واقتديا به في ذلك.
ثم جاء التابعون بعدهم، فانتهجوا نهجهم ونحوا نحوهم، وساروا على منوالهم، ناظرين إلى الدين بمنظار من سبقوهم، النص في عقولهم، والعمل شائع بين ظهرانيهم، وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم معروفة بين صغيرهم وكبيرهم، يسمعها الأبناء من الآباء مجلين خطوات الرسول عليه الصلاة والسلام، مستحضرينها نصب أعينهم، كل ذلك يجري في المدينة، والناس شهود بعضهم على بعض.
3- حجية علم أهل المدينة.
يعتبر عمل أهل المدينة أصلا من أصول مذهب مالك، ودليلا من أدلته التي بنى عليها الأحكام والقواعد، وفرع الفروع واستنبط المسائل وخرجها، وقد كان الإمام يعتمد حجيته ويقدمه على القياس، ويقدمه أيضا على خبر الواحد، لأنه عنده أقوى منه، إذ أن عمل أهل المدينة بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد كما روى عن شيخه ربيعة قوله: ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد، لأن واحدا عن واحد ينتزع السنة من أيديهم)16).
وقد نقل الإمام في موطئه إجماع أهل المدينة في نيف وأربعين مسألة(17) واستدل لذلك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سار عليه الصحابة والتابعون من بعده، كما فعل الإمام في موقفه مع أبي يوسف صاحب أبي حنيفة(18)، وقد كان الاستدلال على حجية عمل أهل المدينة من ثلاثة طرق:
أ- من طريق السنة:
وأجل ذلك وأعظمه أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادته في المدينة وأهلها، وفضل علمهم وترجيحه على علم غيرهم، واقتداء السلف بهم، من ذلك ما روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومدهم”(19)، يعني أهل المدينة.
وما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصح طيبها”(20)، وما رواه البخاري عن سفيان بن أبي زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون، فيتحملن بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون”(21).
وقال ابن أبي أويس: سمعت مالكا يقول في معنى الحديث: “بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ”، أي يعود إلى المدينة كما بدأ منها”(22).
ب- من طريق الأثر:
فقد روى القاضي عياض في المدارك، عن مالك بن أنس قال: المدينة محفوظة بالشهداء، وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وهي دار الهجرة والسنة، وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، واختارها الله بعد وفاته فجعل بها قبره، وبها روضة من رياض الجنة، ومنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك لشيء من البلاد غيرها(23)، ومن ذلك ما قاله زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة، وقال ابن عمر: لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر فيه إلى أهل المدينة، فإذا اجتمعوا على شيء “يعني فعلوه” صلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق تبعه الناس، وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنة والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، لعله يعمل بما عندهم(24).
ج- من طريق العقل:
لقد استدل الآمدي في أحكامه على ذلك(25):
– بأن العادة قاضية بعدم اجتماع مثل هذه الكثرة من الموجودين في مهبط الوحي، الواقفين على وجوه الأدلة والترجيح، إلا عن راجح.
– بأن المدينة دار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي، وموضع قبره، ومستقر الإسلام، ومجمع الصحابة، فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها.
– وبأن أهلها شاهدوا التنزيل، وسمعوا التأويل، وكانوا عارفين بأحوال الرسول أكثر من غيرهم، فَبَعُد أن يخرج الحق منهم.
– وبأن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم، وبذلك يكون عملهم حجة على غيرهم.
…..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المدارك:1/177 وما بعدها.
(2) المصدر السابق:1/149 و150.
(3) المصدر السابق:1/153.
(4) المدارك:1/117 وما بعدها.
(5) أخرجه مالك والترمذي والنسائي والحاكم وعياض في “المدارك” وابن عبد البر في “التمهيد”.
(6) الفكر السامي:2/159 محمد الحجوي.
(7) ترتيب المدارك-الموافقات-حجة الله البالغة.
(8) انظر ذلك مفصلا في كتابنا (مدرسة الإمام البخاري في المغرب) 1/22 وما بعدها.
(9) مالك، أبو زهرة: ص: 375 و376.
(10) إيضاح المسالك: للشيخ يحيي بن محمد المختار الشنقيطي التسولي على التحفة 2/133.
(11) مالك، أبو زهرة: ص: 376 وما بعدها.
(12) طبقات الشافعية- الفروق للقرافي.
(13) أخرجه البخاري في صحيحه:3/21 ومسند أحمد 2/280 و422
(14) أخرجه البخاري في صحيحه:3/21 ومسند أحمد 2/280 و422.
(15) الجامع الصغير:6/164 (مع فيض القدير) ووفاء الوفاء 151.
(16) المدارك:1/46.
(17) الفكر السامي:2/166.
(18) انظر المدارك:1/48-49.
(19) الموطأ:1/200 (مع تنوير الحوالك)، صحيح البخاري:3/22.
(20) صحيح البخاري:3/21- الموطأ: 2/202-204- المدارك:1/33.
(21) صحيح البخاري:3/21، ووفاء الوفاء 1/29.
(22) المدارك:1/38.
(23) المرجع السابق:1/34 و35.
(24) المرجع السابق:1/39.
(25) الأحكام: للآمدي:1/42 وما بعدها.