إن شعب المغرب – أبا عن جد – له من أصالة محتد، وعراقة مجد، ورصيد من قيم عليا، ومقدسات مثلى ما لم يتوافر لكثير غيره، من أمم وشعوب، بها يحيا، وعليها يعيش، ولنا أن نؤكد هنا أمرا مهما، وهو كون تلك القيم وهذه المقدسات هي من مصادر الإيحاءات الخلاقة للإنسان المغربي، ومن منابع عزه ومجده الأثيل.
ومن المتفق عليه حضاريا أن ما يتلقى الإنسان من تلك الإيحاءات يعتبر أقوى ما يربط الإنسان بماضي أمته، وينير له طريق مستقبله، ويركزه في حاضره على أسس قوية متينة، وسبل مكينة تكشف له سنن الخير وتحمي خطواته من كل انحراف وزلل، هذه الذكريات هي التي تنبه الوعي الوطني والديني والتاريخي لدى الأفراد، وتجعلهم يقلبون صفحاتها الرائعة المعطرة بالعزة والمجد والفخار، ولكي تحقق أمة ما مجدا وسؤددا على المستويين الوطني والعالمي لا بد لها من التمسك بقيمها، وعدم تهاونها في المحافظة على المقدسات، وإلا فتصير أمة ذليلة، وإن في بيتها، فقيرة، وإن غاصت في المن والسلوى لغياب عناصر المجد والعزة والأصالة التي هي أساس تحقيق الوجود المعنوي لشخصية الأمة، فنحن المغاربة عبر مسيرتنا الحضارية والتاريخية كان العرش العلوي المصون بؤرة الشعور الوطني، تهفو إليه القلوب، وتجتمع حوله الكلمة. وبذلك يبرز الهدف الأسمى الذي يعمل الجميع على تحقيقه عرشا وشعبا، هذا الهدف هو عزة الأمة أرضا وإنسانا، والاحتفاظ بشخصيتها في هذا العالم متميزة عزيزة كريمة.
فالدين الإسلامي هو القلب النابض لهذه الأمة، والعامل الفعال في غرس وحدة العقيدة، والقاسم المشترك بين الراعي والرعية.
أما العرش – الذي هو خلافة في بيت النبوة، وسلطان الملك، وإمارة للمؤمنين، ورمز المحبة المتبادلة بين الشعب ومليكه – فهو قلب هذه الأمة الوثاب، يأمرها فتفعل، وينهاها فتجتنب عملا بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني».
فالعرش المغربي مستمد أصالته من كونه إسلاميا، أي قائما على البيعة الشرعية، وهي أقدس عقد وعهد بين الراعي والرعية؛ ففي بيعتي العقبة الصغرى والكبرى تعاقدت الجماعة الإسلامية الأولى مع الرسول عليه الصلاة والسلام، على الإيمان بالله، وبرسالة رسوله، وبرئاسته للشريعة وللدولة، وبالاتفاق على الهجرة، وعلى أن يدافع جميع الأفراد عن الجماعة.
وعليه، فالعرش المغربي هو الحصن الحصين للشعب من كل الأخطار، والقلعة الصامدة ضد الأطماع والملمات، ورمز الوحدة الترابية والشعبية، فيكون الاحتفال بهذه الذكرى العزيزة كل سنة، إنما هو احتفال بالعهد المقدس الذي لا ينكث، والولاء الثابت الذي لا يتزحزح والوفاء الذي لا تنفصم عراه.
ورحم الله الشاعر مفدي زكرياء الذي كان يشارك بقصائده العصامية شعب المغرب في كل مناسباته الوطنية حين قال مخاطبا ملك المغرب نصره الله:
بنيت بروح شعبك عرش ملك دعامته العدالة والصلاح
وسست بحكمــــة وسـداد رأي وأيام الدنيا فرص تتــــــاح
…
إن هذه الذكرى فرصة حميدة تبرز من خلالها العلاقة الروحية والآصرة الدينية التي جعلت عاهل البلاد ملكا، يجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية بلا منازع، مما جعل جلالته يرسي في مملكته السعيدة قواعد الشورى والعدالة القائمة على الملكية الدستورية، وحقق للبلاد مستوى عاليا من التطور والرقي علميا وثقافيا وعمرانيا واقتصاديا وسياسيا…
إن العرش العلوي المجيد كان دائما وباستمرار مركز الإلهام والقيادة، معبرا أمينا عن ضمير الأمة، معبرا عن أحاسيسها وشعورها، منفذا لآمالها، وتطلعاتها ورغباتها وأحلامها ومطامحها، فاحتفالنا نحن المغاربة بعيد العرش السعيد، إنما هو احتفال بعيد وطني خالد مَنَّ الله به على هذه الأمة منذ قرون وقرون، ومن خلال المراحل المعيشة نقف على ماهية الروابط بين العرش العلوي والشعب المغربي، وندرك بالتالي البعد التاريخي والحضاري لهذه العلاقة القويمة، فما قامت الدولة في أرض المغرب إلا على أساس العرش، وكل ما حققه الشعب من أمجاد وانتصارات، ومن إنجازات ومكاسب فإن ذلك، كله إنما تم في ظل العرش المجاهد الصامد في وجه مختلف التحديات والمواجهات ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
ولذا، فالاحتفال بهذا العيد إنما هو تعبير بين الدلالة على مدى عمق الروابط الأصيلة لشعبنا، وعلى تشبثه الدائم برمز وحدته وسيادته، ومحور مساعيه الحضارية والتاريخية حتى يبقى العرش مصدر إشعاع ونفوذ عقديا وعلميا وحضاريا…