نص الدرس الذي ألقاه الأستاذ محمد رضوي بن محمد إبراهيم بين يدي أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله حول كيف نكون أمة مثالية في ضوء الكتاب والسنة، وذلك ضمن سلسلة الدروس الحسنية لعام 1444
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمدُ لله وحدهُ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدهُ، وبعدُ
مولاي أميرَ المؤمنين
السلامُ عَلَى جَنابِكمُ العَالِي الشَريفَ، ومَقامِكمُ السَامِيَ المُنِيف، حَفِظَكُمُ اللهُ وأعزَّ أمْرَكُمْ وأَ يَّدَكُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ.
وَيَسُرُّنِي أَنْ أقَدِّمَ إِلَى جَلاَلتِكُمْ أَسْمَى آيَاتِ الشُّكْرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالاِمْتِنَانِ عَلَى دَعْوَتِكُمُ السَّامِيَةِ للمُشَارَكةِ في الدُّروسِ الحَسنِيَّة، وعلى دَورِكمُ القِيَادِيِّ الفَعَّالِ فِي خِدْمةِ الأُمَّةِ الإسْلاَمِيَّةِ.
وتَغْمُرُ السَّعَادَةُ المُسلمينَ في بَلَدِي سريلانكا عِندَمَا نَرَى عِنَايَتَكُمْ بِشُؤُونِ المُسلِمينَ وَقَدْ انتشَرتْ شَرْقًا وغَرْباً حتَّى امْتَدَّت إلى جَنُوبِ آسْيَا، وَإنَّنَا هُنالِكَ نَرَى في سياستكُمْ المَبْنِيَةِ على الوسطيةِ والاعتدالِ نَمُوذجًا لنا ونحن مَدْعُوُّون للتَّعايش مع مُختلف الأجناسِ والدياناتِ، كَمَا أتَشَرَّفُ بِأنْ أَعْرِضَ دَرْسِي هَذاَ بِعُنوانِ:
“كَيفَ نُكَوِّنُ أُمَّةً مِثاَلِيَّةً فِي ضَوءِ القُرآنِ والسُنَّةِ”.
مولاي أمير المؤمنين
إنَّ مِنْ جَوَاَمِعِ الكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَها جَدُّكُمُ المُصْطَفَى محمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم مَا رَوَاهُ أبُو هُرَيْرَة – رضي الله عنه – قال -: “النَّاسُ مَعَادِنُ كمَعَادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلاَمِ إذاَ فَقُهُوا”. رَوَاهُ مُسلمٌ كما رَوَاهُ البخاريُّ بِاخْتِلاَفٍ يَسِيرٍ.
يقولُ الطِّيبِيُّ في شرحه على مشكاة المصابيح: فَقولُهُ: ” النَّاسُ مَعَادِنُ ” المعدن المستقرُّ وَالمُسْتَوْطَنُ، مِنْ عَدَنْتُ البَلَدَ إذا تَوَطَّنْتُهُ. فالمعنى: الناس مُتَفَاوِتُونَ تَفَاوتًا مثل تَفَاوُتِ معادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ.
فالمراد بالتفاوت تفاوت النسب في الشَّرَفِ والصَّنْعَةِ.
وَإنَّما جُعلت معادنَ لما فيها من الاستعداداتِ المتفاوتة.
وقوله: ” كمَعَادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ ” المَعْنِيُّ بهما في الإنسان كونُهُ أوعيةَ العلومِ والحِكمِ، وقوله: ” خِيَارُهُمْ في الإِسْلاَمِ إذاَ فَقُهُوا” فالتفاوتُ في الجاهلية بحسب الأنسابِ وشَرَفِ الاباء وكَرَمِ الأصْلِ، وفي الإسلام بحَسَبِ العلم والحكم، فالشرف الأول موروث والثاني مكتسب”.
فإن قلت : ما فائدة التقييد بقوله: ” إذاَ فَقُهُوا” لأن كل من أسلم ، وكان شريفا في الجاهلية فهو خير من الذي لم يكن له شرف فيها، سواء فقه أو لم يفقه؟ قلت: ليس كذلك، فإن الإيمان يرفع التفاوت المعتبر في الجاهلية، وَفُهم من ذلك أن الوضيعَ المسلم المُتحليَ بالعلم أرفعُ مَنزلةً من الشريف المسلمِ العاطِلِ. اهـ.
فهذَا الحَديثُ النبويُّ الشَّريفُ يَدُلُّ عَلَى أنَّ النَّاسَ فِيهم مَعادنُ الخيرِ المُتَنوِّعةِ إلاَّ أنَّها مَكْنُوزَةٌ فِيهم يَنبغِي اسْتِخرَاجُهَا منهم كاستِخراجِ الذَّهبِ والفِضَّةِ من الأَرضِ. وَذاك ما يَعْنِيهِ مَفْهُومُ التَّنمِيةِ البَشَرِيَّةِ. فَالتَّعرِيفاتُ كلُّها تَصُبُّ في مَعْنىً واحدٍ، وهُوَ تنميةُ النَّاسِ مِنْ أجْلِ النَّاسِ وَمِنْ قِبَل النَّاسِ، فَتَهْدِفُ التَّنميةُ البشريةُ إِلى جَلْبِ الخَيْرِ للبَشريةِ وتكوينِ أُمَمٍ مثاليةٍ.
لم تَكُنْ بِعْثَةُ الأنبياءِ والرُّسُلِ إلاَّ لِتحقيقِ هذه الغَايةِ وإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وِمِنَ الفَسَادِ إلى الصَّلاحِ وِمِنَ الانْحِطاطِ إلى أَوْجِ المَجْدِ.
وإنَّ أَعْظَمَ تَنْمِيَةٍ في تاريخِ البَشَريةِ هي مَا قام به خاتمُ الأنبياءِ والمرسلينَ محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – منذُ بِعْثَتهِ المُشْرِقَةِ حِينَ حوَّلَ خَامَاتِ الجَاهليةِ إلى عجائبِ الإنسانيةِ وصَنعَ رِجالاً كانُوا أفذاذاً لَمْ يَشْهَدِ التَّارِيخُ لَهُمْ مَثِيلاً، وَقَامَ بِتَكْوِينِ أُمَّةٍ يُحْتَذَى بِهَا إِلَى يَومِ القِيَامةِ.
والأُمَّةُ الإسلاميةُ في العَصْرِ الرَّاهِنِ في حَاجَةٍ إلى دراسةِ هذه الأمةِ المثاليةِ وسِماتِهَا وكَيْفِيَةِ إعدادِ الرسول – صلى الله عليه وسلم – لَهَا حتَّى تَسْتَعِيدَ قُوَّتَهَا وتُنْقِذَ البَشريَّةَ من الخسارةِ الأبديةِ.
مولاي أمير المؤمنين
يسرُّنِي أنْ أَعْرِضَ هَذَا الدَّرسَ على جنابِكُمُ الميمونِ وعلى الحضورِ المباركِ من خلالِ مُقدِّمةٍ وفصلينِ.
مِنَ المَعْلُومِ أنَّ التعريفَ بالشَّيءِ يَتِمُّ على المَنْهَجِ العِلميِّ بِذكرِ الجِنسِ ثُمَّ الفَصْلِ ليَنضَبطَ المُعَرَّفُ به انضِباطًا يَتَمَيَّزُ به عن غيرِهِ، وقد يَتِمُّ تعريفُ الشَّيءِ بِالإِشارةِ إليهِ إذا كانَ شيئاً مُعَيَّناً.
فالمُتَتَبِّعُ لتَعريفِ الأُمَّةِ المِثَاليَّةِ من خِلاَلِ نُصُوصِ الكِتابِ والسُّنةِ يَجِدُها تُعرِّفُ الأُمَّةَ المِثَاليَّةَ بطائِفةٍ مُعَيَّنَةٍ هُمْ أصحابُ خيرِ الوَرى محمدٍ – صلى الله عليه وسلم، إِذْ كاَنُوا أُنْمُوذَجاً رَائِعاً وقُدْوةً لِلنَّوعِ الإنسَانيِّ بأسْرِهِ.
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران 110) وَ أَخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ عن السُّدِّي في الآيةِ :قال: قالَ عمرُ بْنُ الخطابِ – رضي الله عنه -: لو شاء اللهُ لقَال: “أَنتُم ” فكُنَّا كلُّنا ولكنْ قال: ” كُنْتُمْ ” خاصّةً في أَصحابِ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – ومَنْ صَنعَ مِثلَ صَنِيعِهِم.
وقالَ ابنُ عرفةَ المالكيُّ في تفسيرِ الآيةِ: الخطابُ للصَّحابةِ، أو لجميعِ النَّاسِ المُؤمنينَ؟ والظَّاهِرُ الأولُ؛ لأنَّ تفضيلَ الصحابةِ لأوصافٍ فيهم ليَستْ في غَيرِهم إلا أن يكونَ مِمَّن أتَى بَعدَهُم فِيه تِلكَ الأوصافُ فيبلُغَ هذه المَنْزِلَةَ، أي في الوَصْفِ الذي شاَرك فيه الصحابِيَّ، ولكن يَتميَّزُ عنهُ الصحابيُّ بوصفِ الصُّحبةِ فهو خيرٌ على كلِّ حالٍ.
فقد كانَ أصحابُ النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أمَّةً مِثاليَّةً لمَن بَعدَهُم من الأُمَمِ، وكانوا أُمَّةً مُتَكاَمِلةً في كُلِّ شُعْبةٍ من شُعَبِ الدِّينِ والحَياةِ: في العَقائِدِ والعِباداتِ والمُعاملاَتِ والمُعاشَراتِ والأَخلاَقِ، ولذلكَ أثْنَى اللهُ سُبحانَهُ وتعالى على كُلِّ ما صَدرَ منهُم؛ وَهُوَ اختَارهُم لصُحبةِ نبيِّه وإقامَةِ دِينِهِ.
فقال مُثنْيِاً على كمالِ إيمانِهم: {آمِنُوا كَما آمنَ النَّاسُ} (البقرة 13) قال القُرْطُبيُّ في تفسيرِ الآيةِ: أي صَدِّقُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشَرْعِهِ كما صَدَّقَ المُهاجِرُون والمحُقِّقُونَ من أهلِ يَثْرِبَ.
وقال تعالى مادحاً عِبَادَتَهُم: {تَراهُم رُكَّعاً سُجَّدًا يَبْتَغُونِ فَضْلا مِن اللهِ ورِضْواناً سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهم مِن أثرِ السُّجُودِ}.
وقال عن مُعاملاتِهم: {رِجالٌ لا تُلهِيهِم تِجارةٌ ولا بَيعٌ عن ذِكرِ اللهِ} (النور 37).
وأثنْىَ سُبحانَهُ وتعالى عَلَى أَخلاَقِهم الرَّفِيعةِ فقال: {مِن المُؤمِنينَ رجالٌ صَدقُوا ما عَاهدُوا اللهَ عَليهِ} (الأحزاب 23) وقَال: {ويُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ مِسكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا} (الإنسان 7-8).
وَلِهَذَا شَهِدَ اللهُ بِرِضوَانِه عنهم فقال: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن المُهاجِرينَ والأَنصارِ والَّذِينَ اتبَّعُوهُم بإحسانٍ رَضِيَ الله عَنهُم ورضُوا عَنهُ} (التوبة 100).
وإذَا كاَن الصحابةُ قَد ناَلوُا شَهادَةَ الله برضوانِه عَنهُم وشَهادَةَ رسولِه – صلى الله عليه وسلم – بأَنَّهُم خيرُ الأُممِ حيثُ قال: “خَيرُ النَّاسِ قَرني ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهَم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم” فالواجبُ عَلينَا معاشرَ الأمةِ الإسلاميةِ أنْ نَقتَدِيَ بهم ونَهتديَ بِهَدْيِهِم ونَسْتَنَّ بسُنَّتِهِم كَمَا أَرْشَدَ إِلى ذلكَ عبدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: من كَانَ مِنْكُم متأسياً فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ النَّبِي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – إِنَّهُم كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّة قُلُوباً، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأقَلَّهَا تَكَلُّفَا، وأقْوَمَهَا هَدْيًا، وأحْسَنَهَا أَخْلَاقًا. اخْتَارَهُمُ اللهُ عزَّ وَجل لِصُحْبَةِ نَبيهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِقَامَةِ دينهِ. فاعرفوا لَهُم فَضْلهمْ، واتَّبعُوهُم فِي آثَارهم فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقيمِ”[1].
تَحلَّى أصحابُ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – بِصفَاتٍ وتَمَيَّزُوا بِسماتٍ هي:
لقَد قَام الصَّحابةُ – رضي الله عليهم – بوَفاءِ الشَّرطِ الأَوَّلِ من شُروطِ تَحقُّقِ خَيرِيَّتهمْ من بَينِ النَّاسِ أجمعينَ والَّذي ذَكرهُ اللهُ تعالى في قوله : { كُنْتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ تأْمُرونَ بالمَعرُوفِ وتَنْهَونَ عن المُنكرِ وتُؤمِنُونَ بِاللهِ } ( آل عمران 110 ) فَبذلَ الصَّحابةُ جُهودَهم القُصوَى في إيصَالِ الخَيرِ إلى الخَلْقِ، وقَامُوا بإِنفاقِ أَموالِهمُ العَزِيزةِ وأَنفُسِهمُ النَفيسَةِ في سَبيلِ اللهِ وفي إِقامةِ دِينِه وإِعلاءِ كلَمتِهِ كَما قَالَ اللهُ تَعَالى: { إِنَّ الله اشْترَى مِن المُؤمِنينَ أَنفُسَهم وأَموالَهم بِأنَّ لَهُم الجَنَّةَ) ( التوبة 111 ) .
كما اسْتَشْهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ وتَجلَّتْ لَهم الجنَّةُ بنَعِيمِهَا كأنَّهم يَرونهَا رأيَ عينٍ. فَهَذَا أنسُ بنُ النَّضْرِ تَقدَّم يومَ أُحُدٍ وهو يقولُ: إنِّي أجدُ ريحَ الجنَّةِ من دونِ أُحُد، قال انسُ بن مالكٍ: فوَجدْنَا به بِضعًا وثمانينَ ضربةً وَوجدنَاهُ قد قُتلَ ومَثَّل به المُشرِكُونَ، فمَا عَرفَه أَحدٌ إلا أُخْتُه بِبَنَانِهِ.
لقَد اسْتَجَابَ الصحابةُ رَضي الله عنهم لقوله تعالى: {يا ايُّها الَّذينَ آمنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمرِ مِنْكُم} (النساء 59) فَكَانُوا مِثَالاً للطَّاعَةِ ورَمْزًا لها وأُشرِبُوا في قُلُوبِهم الطَّاعةَ للهِ ولِرسُولِه.
فإنَّ الانقِيَادَ والطَّاعَةَ منْ جُنودِ الحُّبِّ المُتطَوِّعةِ، فلَمَّا أحَبُّوا النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – بِكُلِّ قُلوبِهم أَطاعُوهُ بِكُلِّ جَوَارِحِهِمْ، يُمثِّلُ ذلكَ خيرَ تمَثيلٍ ما قاله سعدُ بن معاذٍ – رضي الله عنه – قبلَ بدرٍ: إنِّي أقُولُ عن الأَنصارِ وأُجِيبُ عَنهم فاظْعنْ حيثُ شِئتَ وصِلْ حَبْلَ منْ شِئْتَ وخُذْ مِن أَموالِنَا ما شِئتَ وما أَخذْتَ منَّا كانَ أحبَّ إلينَا مِمَّا تَركتَ. وما أَمرْتَ فيه فأَمرُنا تَبَعٌ لأَمرِكَ. فوَاللهِ لَئنْ سِرتَ حتَّى تبَلُغَ البركَ من غُمْدانَ لَنسِيرَنَّ معكَ، واللهِ لئنْ اسْتَعرَضْتَ بنَا هذَا البحرَ خُضنَاهُ معكَ”.
ومنْ أَكبرِ المَصائِبِ التِّي حَلَّتْ بالأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ اليومَ هو عَدمُ الانقِيَادِ لِوُلاةِ الأُمُورِ وإعْجابُ كلِّ واحدٍ برَأيِهِ. فإنَّ الخَيرَ كلَّ الخَيرِ في الطَّاعةِ، والشَّرَّ كلَّ الشَّرِّ في المُخَالَفَةِ. ولنْ يَصْلُحَ آخِرُ هذهِ الأُمَّةِ إلاَّ بما صَلُحَ بهِ أولهُّا، وقدْ دلَّتِ الآيَاتُ القُرآنيةُ والأَحادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، وتَظَاهَرَتْ فَتاوَى أهلِ العِلْمِ واتَّفَقَتْ كلِمتُهم على وُجُوبِ طاعةِ الإمَامِ وحِرْمَةِ الخُرُوجِ عَليهِ.
قال الإمامُ النَّووِيُّ : وأمَّا الخُرُوجُ عَليهم وقِتالُهم فحَرامٌ بإجماعِ المُسلِمينَ.
وقال عبدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ:
إنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا … مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا
كَمْ يَرْفَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مَظْلمةً … فِي دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا
لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ … وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا [2]
مولاي أمير المؤمنين
وإنَّنِي أَفتَخِرُ في هذَا المَقامِ بالقَولِ بأنَّ الله سُبحانَهُ وتَعالَى قدْ امتنَّ علَى دَولتِكُم المَملكَةَ المَغْرِبيَّةَ الشَّرِيفَةَ بإِمَارَتِكُمُ الرَّشِيدةِ وَقِيادتكُمُ الحَكِيمَةِ التي تَسْهَرُ على ازْدهارِ الدَّولةِ ورُقِيِّها ومَصالحِ شَعْبِها، كَما مَنَّ عَلى المَملكةِ المَغرِبيَّةِ بشَعْبٍ واعٍ يَقفُ مع جَلالتِكُم حِصنًا حصينًا. أسألُ الله تَعالَى أن يُؤيِّدَكُم وَيَنْصُرَكُم وأنْ يَحفَظَكُم وسائرَ أَفرادِ أُسرَتِكُم العَلَوِيَّةِ الشَّرِيفةِ وشَعْبِكُم وأن يُدِيمَ على دَولتِكُم نعمةَ الأَمنِ والسَّلاَمِ والاستِقرَارِ.
تَلِي الطَّاعَةَ في الأَهَمِّيَّةِ وَحدةُ الكَلِمةِ فبالطَّاعَةِ تَتلاَحَمُ الأُمَّةُ وتَتَمَاسَكُ، وَتَقْوَى الصِّلةُ بينَهُم جميعًا سواءٌ بينَ الراعِي ورَعيَّتِهِ وَبينَ الرَّعايَا بَعْضِهِمْ بَعْضاً، وبذَلِك تتَحَقَّقُ وَحْدَةُ الأمَّةِ وَقُوَّتُهَا.
فإنَّ الله تعَالَى رَبطَ بينَ الطَّاعَةِ وقُوَّةِ الأُمَّةِ فَقَال: {وأَطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ ولاَ تَنَازَعُوا فتَفْشَلُوا وتَذهَبَ رِيحُكُم واصبِرُوا إنَّ اللهَ معَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال 46).
ولقدْ أَثنَى اللهُ في كِتَابِهِ على وَحْدَةِ أصحابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وذَكَر أنَّ ذلكَ منهُ فَضلٌ عَظِيمٌ فقال تعَالَى: {واعتَصِمُوا بِحبلِ اللهِ جميعًا ولاَ تَفرَّقُوا واذكُرُوا نِعمتَ اللهِ علَيكُم إذ كُنتُم أَعداءَ فألَّف بينَ قُلُوبِكُم فأَصبحتُم بِنعمتِهِ إخوانًا} (آل عمران 103) وقال أيضًا: {وألَّف بينَ قُلوبِهم لو أَنفَقتَ ما في الأَرضِ جَميعًا ما ألَّفتَ بينَ قُلوبِهم ولكنَّ اللهَ ألَّفَ بَينَهُمْ} (الأنفال 63)
ولاَ مُبالَغةَ في القَولِ بأنَّ مدارَ الدِّينِ الإِسلامِيِّ ومِحْورَهُ هُو الوَحدةُ والائتِلاَفُ. وجَميعُ تَكاَليفِ الِّدينِ تَدُورُ حولَ هذَا المِحوَرِ.
فَفِي العِبَادَاتِ: يَهدِفُ الإِسلاَمُ في أَحدِ مَقاصِدهِ بِتَشرِيعِ الصَّلاَةِ وأَدَائِها في المَسجِدِ معَ الجَمَاعَةِ وتَشْرِيعِ الزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ واستِقبَالِ القِبلَةِ الوَاحِدَةِ وغَيرِها منَ التَّشْرِيعَاتِ إلى تَكوِينِ المَودَّةِ والأُلفَةِ بينَ المُسلِمِينَ.
وفي المُعامَلاَتِ: أمرَ الإِسلامُ بالصِّدقِ والأَماَنةِ والعَفوِ والسَّماحَةِ في البَيعِ والشِّرَاءِ ونَهى عن الغِشِّ والرِّبَا وعن جَميعِ بُيُوعِ الغَرَرِ. وليسَ ذلكَ إلا لإِنشَاءِ المَودَّةِ والأُلفةِ في قُلُوبِ النَّاسِ.
وفي المُعاشَرَاتِ والحَياةِ الأُسَرِيَّةِ: جَعَل الإِسلاَمُ الحياةَ الزَّوجِيَّةَ سببًا لِلأُلفةِ والمَحَبَّةِ فقال تعَالَى: {ومِن آياتِهِ أن خَلَقَ لَكُم منْ أَنفُسِكُم أَزْواجًا لِتسكُنُوا إليها وجَعلَ بَينَكُم مَودَّةً وَرَحمةً} (الروم 21)
وفي جَانِبِ القِيَمِ والأَخلاَقِ: أَمرَ الإِسلاَمُ بالعَدلِ وإلِاحسَانِ وإِيتَاءِ ذِي القُربَى ونَهى عن الفَحشَاءِ والمُنكَرِ والبَغيِ، ونَهى كَذلكَ عن السُّخرِيَّةِ واللَّمزِ والتَّنابُزِ بالأَلقَابِ وَكُلّ مَا يُؤَدِّي التَّعادِي والتَّبَاغُضِ والتَّنَازُعِ.
ومَا أَحوَجَ الأُمَّةَ إلى دِراسَةِ آدابِ الاختِلاَفِ خُصوصًا في مَسائِلِ الدِّينِ، فالاختلافُ في الجُزْئياتِ لَيسَ هو الخِلاَفُ، فإنَّ الاختِلافَ كَان وَاقِعا بين الصحَابةِ والتَّابِعينَ إلا أنَّ ذلكَ لم يُؤَدِّ إلى النِّزَاعِ والشِّقاقِ فيمَا بَينَهُم. ومَهمَا وُجِدُ الاخْتِلاَفُ في الصَّحابَةِ وكذَا منْ بعدَهم من التَّابِعينَ وأَئِمَّةِ الدِّينِ وُجِد مَعهُ آدابُهُ من الاحتِرَامِ والأُلفَةِ والمَحبَّةِ.
قال إلامَامُ الدِّهلوي – رحمه الله -: وقدْ كانَ في الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومنْ بَعدَهُم منْ يقرأُ البَسملةَ ومِنهُم من لاَ يَقرؤُها. ومِنهم منْ يَجهرُ بِها ومِنهُم من لاَ يَجهرُ بِها. ومِنهم منْ يَقنُتُ في الفَجرِ ومِنهم مَن لاَ يَقنُتُ في الفَجرِ …إلى أَنْ قَالَ وَمَعَ هَذَا فكانَ بَعضُهم يُصلِّي خَلْفَ بَعضٍ مثلَ ما كانَ أبُو حنفيةَ وأصحَابُهُ والشَافِعيُّ وغيرُهُم – رضي الله عنهم – يُصَلُّونَ خَلفَ أَئمَّةِ المَدِينَةِ من المَالِكِيَّةِ وغَيرِهِم، وإن كَانُوا لاَ يَقرَؤُونَ البَسمَلةَ لاَ سرًا ولاَ جهرًا.
فتِلكَ كَانتْ سُنَّةَ سَلفِنا الصَّالِحِ في التَّعَامُلِ معَ الاخْتلاَفِ الوَاقِعِ فِيمَا بَينَهم من أُمُورِ الدِّينِ الَّتِي يَلزَمُ عَلى الأُمَّةِ الإِسلاَمِيَّةِ السَيرُ عَلى مِنهَاجِها لتَصِيرَ خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ. وأَوَدُّ أن أُشِيرَ هُنا إلى بعضِ آدابِ الاخْتِلاَفِ التَّي يَنْبغِي التَّحَلِّي بِهَا:
فهَذهِ جُملةٌ مِن الآدابِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كلِّ فَردٍ من أفرَادِ الأُمَّةِ الالتِزَامُ بها لِإنَّ شَرِيعتِنَا الغَرَّاءَ لم تَدْعُ أبدًا إلى أُمُورٍ تُهدِّدُ وَحدةَ الأُمَّةِ وتَهُزُّ أمنَها واستِقرَارَها.
إنَّ الوَسطِيَّةَ مِنْ خَصائِصِ الشَّرِيعةِ الإِسلاَميَّةِ وهي نصٌّ قُرآنِيٌ لِتحقِيقِ الأُمَّةِ خَيرِيَّتَها فقال تعَالَى: {وكَذلِكَ جَعلْناكُم أُمَّةً وسطًا لتكُونُوا شُهدَاءَ على النَّاسِ} (البقرة 143)
وكَان النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُرشِدُ أَصحَابهُ إلى الوَسَطِيَّةِ في جَمِيعِ شُؤونِ الحَيَاةِ وفي كُلِّ شُعَبِ الدِّينِ. قال لِمُعاذٍ – رضي الله عنه – حِينمَا قَام بِتطْوِيلِ الصَّلاةِ في إِمَامةِ قَومِهِ: “أفَتَّانٌ أَنتَ يا معاذُ؟
ونَزلَ القُرآنُ بالتَّمسُّكِ بالوَسطِيَّةِ في كَثيرٍ مِن الأُمُورِ فَقَال تعَالىَ في شَأْنِ الإِنفَاقِ: {والَّذينَ إذَا أنفَقُوا لم يُسرِفُوا ولم يَقْتُرُوا وكَان بَينَ ذَلك قَوامًا} (الفرقان 67)
ولَكنَّ الأَمرَ المُؤْسِفَ أن نَرَى بَعْضَ المُسْلمين اختَارَ طَريقَةَ التَّفرِيطِ. ونَبذَ بَعْضَ أحْكامِ الشَّرِيعَةَ. وَابْتُلِيَ اخَرُونَ بالإفرَاطِ في الدِّينِ وتَبنَّوْا أفكَاراً مُتطَرِّفةً مُخَالِفَةً لتَعالِيمِ الشَّرِيعَةِ الغّرَّاءِ. ووَقَعُوا فَريسَةَ الإرْهابِ و التَّطَرُّفِ، فعَلى حُكَمَاء اُمَّةِ الإِسلاَمِ وقَادَاتِها وعُلمَائِها توعِيةُ المُسلِمينَ بِخُطُورَةِ الإِرهَابِ.
لاَ مُبالَغَةَ في القَولِ بأَنهُ لاَ يُمكِنُ تَكوِينُ أُمَّةٍ مِثَاليَّةٍ ولاَ بِنَاءُ الوَحدَةِ والتَعَايُشِ بَينَ المُجتَمعَاتِ إلاَّ بِالقِيمِ والأَخلاَقِ. يَقُولُ تعالى: {فبمَا رَحمةٍ من اللهِ لِنتَ لهُم ولو كُنتَ فظَّا غَليظَ القَلبِ لانْفَضُّوا من حَولِكَ فاعْفُ عَنهُم واستَغفِر لهُم وشَاوِرهُم فِي الأَمرِ} (آل عمران 159) وقال: {وإِنَّكَ لعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم 4).
وقَد كَان الصَّحابَةُ مُتحَلِّينَ بِالأَخلاَقِ الحَسنَةِ مُتمَسِّكِينَ بِالقِيمِ السَّامِيةِ وتَمثَّلوا مَعانِيَهَا في حياتهم فَشَكرُوا الله علَى النِّعَمِ وصَبَرُوا عَلى المِحنِ وتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ في سَبِيلهِ. ولاَ شَكَّ أنَّ الطَّريقةَ الفُضْلَى لتَكوِينِ أُمَّةٍ مِثالِيةٍ هي التربيةُ على القِيمِ الأَخلاَقِيَّةِ السَّامِيةِ.
فهذا عمرُ رضي الله عنه الَّذِي كَان يَرْعَى الإِبلَ لِأبِيهِ الخَطَّاب وكانَ من أَوسَاطِ قُريشٍ جَلادَةً وصَرامَةً ولاَ يَتبَوَّأُ مِنها المَكانةَ العُليَا إذا بِه يَفجَأُ العَالَمَ بِعبقَرِيَّتِهِ ويَدحَرُ كِسرَى وقَيصَرَ عن عُرُوشِهِما ويُؤَسِّسُ دَولَةً إسْلاَمِيَّةً تَجمَعُ بين جَوْدَة الإِدارَةِ وَحُسنِ النِّظاَمِ فَضلاَ عنِ العَدلِ الِّذي لاَ يَزاَلُ مَضْرِبَ المَثلِ.
وهذَا أبُو عُبيدةَ الَمَوصُوفُ بالصَّلاَحِ والأَمانَةِ والرِّفقِ ويَقُودُ السَّرايَا يَتوَلَّى القِيادَةَ العُظمَى لِلمُسلِمينَ ويَطرُدُ الرُّوم مِنْ رُبوعِ الشَّامِ.
وهذَا سَلمانُ الفَارِسِيُّ الذي لم يَزلْ يَنتَقلُ من رِقٍّ إلى رِقٍّ حَتَّى تَحَرَّرَ بِالإِسْلام وَأَصْبَحَ واليًا على عاصمة فَارِس.
وهذَا بلالٌ الحَبَشِيُّ يَبلُغُ بالإسلام من الفَضْلِ والصَّلاَحِ مَبلَغًا يُلَقِّبُه فِيهِ أَميرُ المُؤمِنِينَ عمرُ بالسَّيِّدِ.
وهذَا عبدُ الله بنُ عباسٍ من شَبابِ الأمةِ يَجعَلُه – صلى الله عليه وسلم – أحَدَ المُفَسِّرينَ للقران الكريم.
وهذَا أنسُ بن مالكٍ مِنْ صِغار الصحابة يَخْدُمُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَشْرَ سِنينَ، وَصَارَ مِنَ المُكْثِرِينَ للحَديثِ.
وهذِه أمُّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةُ – رضي الله عنها – تصبح فقيهةَ الأمةِ يَستَفتِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةُ ويَتلقَّى عنها التَّابِعُونَ الفقهَ.
فهذِه النَّماذِجُ غَيضٌ من فَيضٍ تربَّت على يَدِ الرَّسُول – صلى الله عليه وسلم – خَيْر تَرْبِيَّة وتَكَوَّنتْ أحسنَ تَكوينٍ وأصْبحتْ أمَّةً مِثاليَةً يُحْتَذَى بِهَا.
مولايَ أميرَ المُؤمِنينَ
أَودُّ أنْ يَكُونَ خِتامُ هذَا الدَّرسِ قولُه تَعَالى: {لقدْ كَان لَكم فيِ رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسنَةٌ لمن كَانَ يَرجُو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذَكرَ الله كَثيرًا} (الأحزاب 21) وَعَودٌ على بَدْءٍ أقولُ: لمَّا أرسَلَ اللهُ تَعالَى رسُوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعَالمَينَ وهِدايَةً للنَّاسِ صَارَ هُوَ المَثلَ الأعلَى والقُدوَةَ الأَسْنَى.
فمَا أشَدَّ حاجةَ الأمَّةِ الإسلاَميَّةِ إلى دِراسةِ السِيرَة – في جَميعِ جوانبها باعتباره صلى الله عليه وسلم إمامًا وقَاضيًا وحاكمًا ومُصلِحًا ومُعلِّمًا ومُربِّيًا وَقائدًا ومُستخَرِجًا للقُدرَاتِ البَشرِيّةِ، وما أَعظم فاقتها إلى الاقتِدَاءِ به وبِأصْحابِهِ حتَّى تستَعِيد مَجدَها وتصير قدوة للنَّاسِ أجمعينَ. وفي ختام كلامي أسأَلُ الله العلي القدير أن يبارك في أمير المؤمنين ويديم عليه نعمة الصحة والعافية ويسدد خطاه في خدمة الإسلام والمسلمين والسلام على المقام العالي بالله.
والختمُ من مولانَا أميرِ المُؤمِنينَ.
الهوامش