يقول الله سبحانه وتعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) {سورة البقرة، الآية:184}.
فرمضان شهر مبارك ميمون، نزل فيه القرآن العظيم، وابتدأ فيه الوحي الإلهي، واتصل الرسول القوي الأمين، بالرسول الأمي الأمين فأضاءت الأرض بنور السماء، وعرف سكان هذه الأرض –بفضل القرءان- أخبار السماء، وقال الله عزت حكمته: (إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) {سورة الإسراء، الآية:9}، فطمحت نفوسنا لاسترواح النفحات العلوية، واشتاقت أرواحنا إلى الاتصال بالنور الإلهي، ونشدت عقولنا الاهتداء بهذا النور إلى أقوم وأوضح السبل، فإن في هذا النور بشارة للمسلمين، وتبيانا لكل شيء، وشفاء ورحمة للمومنين، فخصصنا هذه الكلمة بالحديث عن القرءان في شهره المبارك، ومن الله نستوهب التوفيق، ومنه نرجو الهداية.
القرءان كتاب هذه الأمة الخالد، أنزله ربها على رسولها، ليكون نبراسا ينير المسالك في ظلمة الحياة، وقسطاسا يزن القيم في أهواء النفوس؛ فهو- لهذا وغير هذا- مصدر الخير لها، وهو الهادي للتي هي أقوم من طرق السعادة في الدنيا، وسبل النجاة في الآخرة، وهو فرقان يفرق بين الحق والباطل، وبين الحجة والشبهة، وبين الهوى والضلال، وذلك بما فيه من روائع الحكم، وعادل الأحكام، وداعي الحق، وناطق الدلائل بقدرة الله وعظمته، وصادق الوعد لمتبعيه بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وبالأمن بعد الخوف، وبالتمكين في الأرض، فلهذا يجب عليها -أي الأمة- أن تحفظه، وأن تعمل به.
القرءان -أيها القراء الكرام والقارئات الكريمات- كتابكم المبين.. كتابكم فاقرأوه ورتلوه فهو ذكر لكم فاتخذوه وردا لازما تُزَك نفوسكم، وتهتد قلوبكم، وتستنير عقولكم… يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إن هذا القرءان مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرءان حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه؛ فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم «ألم» حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”.
القرءان كتابكم فادرسوه وتدبروه فهو هاد لكم، فاتخذوه إماما متبعا تستقم أخلاقكم، وتسم تصرفاتكم، وتستعد حياتكم، ويرفع الله ذكركم، فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده”.
القرءان كتابكم فاحفظوه وتعهدوه فهو منجاة لكم، فاستروحوا منه روائح الجنة، فهذا الرسول العزيز صلى الله عليه وسلم يقول: “من قرأ القرءان فاستظهره، فأحل حلاله، وحرم حرامه، أدخله الله به الجنة” الحديث.
لهذا ندعو إلى إحياء دراسة القرءان، وإلى تعميم تعليم القرءان، وإلى السعي بشتى الوسائل للعمل بتعاليم القرءان “.. يا أباذر: لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة”، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الذي ليس في جوفه شيء من القرءان كالبيت الخرب”.
ندعو إلى إقامة مدارس خاصة بدراسة القرءان، وتفهيمه على ضوء السنة الشريفة، وإلى تحفيظه لكل من توجد عنده ميزة الحفظ من أولادنا وبناتنا؛ فقد وردت أحاديث صحيحة في فضيلة حفظه ومزية العمل به.
إن خير وسيلة لإرضاء الرب جل علاه التعبد بقراءة القرءان، والاهتداء بتعاليمه في تزكية النفس وتربية النشء، وتطبيق أحكامه في واقع الحياة، وفي توجيه دفة الحضارة العصرية نحو نوره الواضح، جاء في آخر حديث شريف روي عن أبي أمامة قوله صلى الله عليه وسلم: “.. وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه” يعني القرءان؛ لأن القرءان شامل جامع، يحتوي على ما ينقي النفس، ويطهرها ويرتفع بها راضية مرضية إلى ربها.. ويحتوي كذلك على المبادئ التي ترفع من شأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا حتى يؤدي وظيفة الاستخلاف في الأرض، فيتمكن من السيادة العزيزة، ومن الاطمئنان الذي يكفل السعادة الكاملة.
ويكفي أن نأتي بآية واحدة على سبيل المثال، لا على سبيل الحصر، وهو قوله جلت حكمته وعظم عدله: (من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) {سورة النحل، الآية:97}.
إننا إذا كنا ندعو .. إلى إحياء دراسة القرءان العظيم، والرجوع إلى تعاليمه المنيرة، فلأن ذلك هو الواجب علينا باعتبارنا مسلمين أولا وقبل كل اعتبار، ولا نعذر –أمام الله- بعذر مطلقا؛ ثم بعد ذلك فإننا نعتقد أن للقرءان الكريم تأثيرا خاصا في تربية النشء على العفة والطهارة، وفي تنمية مداركهم، وإعدادهم للحياة السعيدة، وتأثيرا كبيرا في تنوير بواطنهم بتثبيت العقائد الصحيحة، وتكوين الأخلاق الكريمة في نفوسهم بإشعارهم بالمسؤولية أمام الله وأمام الناس، قال سبحانه: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون، وستردون إلى عالِم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) {سورة التوبة، الآية:106}.
لقد “علم المسلمون الأولون ذلك في صدر الإسلام فوكلوا إليه –وحده- تربية أخلاقهم، وتكوين مشاعرهم، وتنظيم عقائدهم، وأدركوا أن من المستحيل أن يقوم غير القرءان مقامه في تربية النفوس، وتكوين الملكات، وتقويم الغرائز، فأبوا أن يأخذوا عقائدهم وأخلاقهم ومشاعرهم عن غيره، لأنهم أيقنوا أن ليس في استطاعة أي إنسان أن يؤلف كلاما يحمل في كيانه تأثيرا يماثل تأثير القرءان أن يدانيه، أو يقع قريبا منه”. وانتفعوا بهذه المعرفة تمام الانتفاع، فلقد كانوا يقرأونه ويتدبرون آياته ليعملوا بما ورد فيه من الأوامر، ويقفوا مع حدوده، وينتهوا عما نهى عنه، باعتباره القانون الأساسي لهم جميعا؛ تحمي أوامره دولتهم، ويحافظ على كيان جماعتهم؛ وبفضل تربية القرءان وأنواره وتوجيهه كانوا رجالا بكامل معاني الرجولة في جميع تصرفاتهم، طهرت أرواحهم، وسمت نفوسهم، واتسعت آفاقهم، وعظمت آمالهم ففتحوا من الدنيا –في بضع سنين- ما لم يفتحه غيرهم في عدة قرون؛ وبفضل أخذهم بالقرءان عزوا وسادوا، وسعد معهم غيرهم، مع العلم أنه لم يكن يوجد –يومئذ- من وسائل التبليغ والنقل والسفر ما هو موجود الآن، ولكنها الهمم التي رباها القرءان .. والأبطال الذين دربهم القرءان.. وصدق الله العظيم: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) {سورة النور، الآية:53}.