بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله
اللهم صل على سيدنا محمد في كل آن وحين.
أما بعد مولاي أمير المؤمنين حامي حمى الملة والدين:
أتشرف بأن أتناول بعد إذنكم موضوع فضل الاعتصام بحبل الله المتين وبسنة سيد المرسلين انطلاقا من حديث مولانا رسول الله r رواية عَن الإمام مَالِكٍ رحمه الله أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ «رواه الإمام مالك في الموطأ، وذلك من خلال ثلاثة محاور:
المحور الأول في شرح الحديث المعتمد ومكانة السنة من الدين؛
المحور الثاني في أصناف المتعاملين مع السنة؛
المحور الثالث في جهود مولانا أمير المؤمنين في خدمة حديث جده سيد المرسلين.
الحديث الذي بين أيدينا رواه مالك بلاغاً في “الموطأ” كتاب القدر، بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ، والحاكم موصولاً في “المستدرك” كتاب العلم.
وقد وصله الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وما ينبغي في حمله وروايته وفي التمهيد وقال عنه: «محفوظٌ معروفٌ مشهورٌ عن النبيِّ عندَ أهلِ العلم شُهرةً يكادُ يُستَغْنى بها عنِ الإسناد، ورُوِيَ في ذلك من أخبارِ الآحادِ أحاديثُ من أحاديثِ أبي هُريرة، وعَمْرو بنِ عَوْف» وأكد ذلك في الاستذكار.
وورد الحديث موصولا عند ابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك، وعند الحاكم في المستدرك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا أَبَدًا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا وَعَمِلْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ» وسكت عنه الحاكِمُ والذَّهبيُّ. والدارقطني في سننه بنحوه، وله شاهد عند الحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
هذا الحديث من جوامع كلمه، وفيه من الفوائد الحث على الاعتصام بالكتاب والسنة ودعوة للزوم نهجهما واتباع سبيلهما، والحديث واضح الدلالة، بيِّن المعنى في أن الْعِصْمَة وَالنَّجَاة تحصل لِمَنْ تمَسَّكَ بالكتاب والسنة وعض عليهما بالنواجذ؛ لأنهما محفوظان، وحجتُهما باقيةٌ إلى يوم القيامة. فهما -كما قال الإمام الزرقاني رحمه الله-:” الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ لَا عُدُولَ عَنْهُمَا وَلَا هَدْيَ إِلَّا مِنْهُمَا، وَالْعِصْمَةُ وَالنَّجَاةُ لِمَنْ مَسَكَ بِهِمَا وَاعْتَصَمَ بِحَبْلِهِمَا، وَهُمَا الْعِرْفَانِ الْوَاضِحُ وَالْبُرْهَانُ اللَّائِحُ بَيْنَ الْمُحِقِّ إِذَا اقْتَفَاهُمَا وَالْمُبْطِلِ إِذَا خَلَّاهُمَا، فَوُجُوبُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً”. فالقرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ النَّبويةُ هُمَا حَبْلُ اللهِ المتينُ، وهما سبيل النجاة.
أما القرآن الكريم فقد تكفل الله بحفظه فقال جل في علاه:] إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ الحِجْر آية 9، حفظه من أن يزاد فيه باطل أو أن ينقص منه، وصانه من أن تمتد إليه يد التحريف والبديل والتزوير «وتعهد الله لنبيه بحفظه وصيانته فلا تمسّه أيدي المحرفين والمغرضين» وصدق الإمام الشافعي حين قال: “أبى الله أن يتم إلا كتابه”. وقال تعالى:] وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[ فلا يستطيع أحد أن يزيد فيه باطلا ولا أن ينتقص منه حقا، وما تكفل الله بصيانته لا يضيع، وما “حفظه الله علينا لم يُغَيَّر”. وهذا الحفظ وتلك الرعاية لا تخفيان على أحد اليوم، «فلا جرم لو غيّر واحد حركة أو سكونا من القرآن لنادى الصبيان بتخطيئه».
والسنة أصل من أصول هذا الدين الحنيف. وهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي شديدة الارتباط بكتاب الله فهي شارحة لقواعده الْعَامَّة، ومبينة لمعانيه، ومفصلة لمجمله، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه. فهي منه بمنزلة المبيِّن من المبيَّن، ولا يتصور فَهْمٌ لكتاب الله من دون رجوع لسنة سيدنا رسول الله. ولا يمكن الاستغناء عنها في معرفة أحكام الشرع الحنيف. فالْهَدْيُ” كُلُّ الْهَدْيِ فِي اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي المبينة لِمُرَادِ كِتَابِ اللَّهِ، إِذَا أَشْكَلَ ظَاهِرُهُ أَبَانَتِ السُّنَّةُ عَنْ بَاطِنِهِ وَعَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ”
وإذا كان الرسول هو مرجع الصحابة قيد حياته، فإن المعول بعد وفاته على سنته الصحيحة. وقد قسمها العلماء من حيث وظائفها إلى ثلاثة أقسام:
فهي إما سنة مقررة ومؤكدة لحكم ثبت بالقرآن الكريم ومعضدة له، وإما سنة مبينة لما جاء في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى: ]وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون[[سورة النحل آية 44] وإما سنة مستقلة بالتشريع منشئة للأحكام.
وخشيَة اختلاطها بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم نهى رسول الله -في بداية الأمر- عن كتابة الأحاديث، لكنه أذن لبعض الصحابة أن يكتبوا بعض الأحاديث، بل وردت عنه روايات تنسخ أحاديث النهي. والكتابة في عهده كانت كتابة خاصة، وليست تدوينا عاما، وهي تقاييد فردية وليست جماعية، وقد اشتهرت صحف لبعض الصحابة رضي الله عنهم: كصحيفة أبي بكرٍ t فيها فرائض الصدقة. وصحيفة علي بن أبي طالب، والصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة جابر بن عبد الله وغيرها.
بعد عهد رسول الله r، اتسعت رقعة البلاد الإسلامية وفشا الوضع في الحديث أي اختلاق أحاديث لا أصل لها، وكثر موت العلماء، بادر الخليفة عمر ابن عبد العزيز على رأس المائة الثانية للهجرة فأمر بجمع وتتبع حديث رسول الله، وتدوينه خشية ضياعه، وهكذا نشطت حركة تدوين الحديث. أخرج الإمام البخاري في صحيحه:” كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ r فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ (أي ضياعه) وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ r، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا؛ حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا».
وفي ذلك قال مولانا جلال الدين السُّيوطي في ألفيته:
أَوَّلُ جامِعِ الحديثِ والأَثَرْ … اِبْنُ شِهابٍ آمِرًا لَهُ عُمَرْ
وَأَوَّلُ الجَامِعِ لِلأَبْوَابِ … جَمَاعَةٌ فِي العَصْرِ ذُو اقْتِرَابِ
كَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُشَيْمٍ مَالِكِ … وَمَعْمَرٍ وَوَلَدِ المُبَارَكِ
فاشتهر من المدونين لحديث الرسول جماعة متقاربون في العصر مختلفون في مناطق وجودهم وتفنن المحدثون في مناهج تأليفهم للكتب ما بين مصنفات ومسانيد وجوامع وموطآت وغيرها…
ولابد من التنبيه أن الاعتماد كان على الحفظ والتدوين معاً فقد واكبتِ الروايةُ الشفهيةُ التدوينَ في تاريخ الإسلام.
والمشتغلون بالسنة فرق وطوائف اختلفت مناهجهم واتجاهاتهم في التعامل مع حديث رسول الله r كما اختلفت وتنوعت مقاصدهم. فطائفة منهم أنكرت السنة جملة وتفصيلا، وأخرى ردت أخبار الآحاد، أي التي لم يروها أكثر من واحد، ولم تأخذ بها، وثالثة استعملت عَقْلَها وقَدَّمته على الأحاديث، وشكك المنتمون لهذا التيار في السنة، وفي علوم الشريعة عموما، واستهانوا بجهود علماء الحديث وبمناهجهم البالغة الدقة.
وهكذا ابتليت السنة بين مشكك في صحتها، رافض لها، معترض عليها بفكره ورأيه وهواه، فالسنة في نظر بعض هؤلاء تعارض الحقائق العلمية، وتنازع العقلَ سلطانَه؛ لذا يجب-في زعمهم عزلها عن دائرة الاحتجاج. ويتزعم هؤلاء: القرآنيون، والعقلانيون، والمستشرقون كـــ: إنياس غولد زيهر” و”لامانس” و”هوروفتش” و”فنسنك” وكراتشكوفسي، وغيرهم كثير…
ومن الحيف والظلم وعدم الإنصاف أن نجعلهم في سلة واحدة، وأن نصنفهم في اتجاه واحد، بل يتأرجحون بين المتحاملين المعادين للتراث الإسلامي، همُّهم الوحيد تشويه هذا الدين، والتشكيك في تعاليمه، وبين قلة من المنصفين المعتدلين الذين تتسم كتاباتهم بالموضوعية والنزاهة.
وأما العقلانيون: فمنهجهم يقوم في الغالب على رد الأحاديث التي تتحدث عن الغيب أي كل ما غاب عن الحس والمشاهدة، وعقولهم لا تقبل تلكم الأخبار، ولا تستسيغها.
فئة قبلت السنة: وفي الجهة المقابلة لهذه الطائفة الرافضة للسنة كليا أو جزئيا، نجد أكثرية تعترف بحجية السنة وتقر بالمنهج الصارم الذي استعمل في جمعها، كيف لا وهي المصدر الثاني للدين بعد القرآن، لكنهم وقعوا في بعض الآفات نذكر من بينها:
وهم وإن كانوا ينظرون إلى السنة بعين التوقير، ويرون أنها دليل شرعي تقوم به الحجة؛ لكن منهجهم في التعاطي مع السنة يعاني من قصور لجموده على ظواهر النصوص، وسطحية في التعامل معها، وربما أوقعهم ذلك في التشدد والغلو والتطرف، وأفقد السنة بريقها ووهجها؛
يضاف إلى ما سبق ذكره الوقوع في تقديس المرويات والاحتجاج بها، فوقعوا في آفة الاحتجاج بالروايات الواهية والمكذوبة. وقبلوا الغث والسمين، فهم كحاطب ليل، يُرَوِّجُون لأحاديث واهية وموضوعة باطلة لا أساس لها من الصحة؛ مما أدى إلى التشويه والإساءة إلى الإسلام.
وهنالك من بالغ في الرد على أمثال هؤلاء مثل شُعْبَةَ التابعي الذي صح عنه أنه قال: «مَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَتَّشَ الْحَدِيثَ كَتَفْتِيشِي، وَقَفْتُ عَلَى أَنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ كَذِبٌ».
والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المكذوب على رسول الله r، فبعد وفاة الرسول وظهور الخلافات المذهبية والسياسية بين الفرق، وبعد توسع الرقعة الجغرافية لبلاد المسلمين، ودخول أجناس كثيرة مختلفة في الإسلام، كثر الوضع والدس والافتراء على رسول الله.
ولقد حاول أعداء الدين النيل من كتاب الله فأعجزهم ذلك؛ لأن الله حفظ كتابه من كل تبديل أو تغيير، فلما يئسوا من الوصول إلى كتاب الله حولوا وجهتهم نحو سنة رسول الله.
وهذا ما دعا العلماء إلى التحذير من هذه الأحاديث الموضوعة، والتشمير عن ساعد الجد في نقد الروايات، ووضع قواعدَ منضبطة، متوسلين بآليات علمية دقيقة للحيلولة دون تفشي هذه الظاهرة.
وهكذا أكدوا على وجوب التزام الإسناد، ونهوا عن رواية الأخبار التي تشكو من خلل في السند، وحذروا من الأخذ عن كل من هب ودرج، والتزموا السؤال عن أحوال الرجال الذي نقلوا الأحاديث، والتحري عن مستوى تدينهم، وصدقهم وأمانتهم وضبطهم للرواية. وحذروا من الكذابين، وفضحوهم على رؤوس الأشهاد. ووضعوا أماراتٍ وعلاماتٍ وضوابطَ يُعرف بها الحديث الموضوع، ويتبين المزيف من الصحيح، والأصيل من الدخيل، وقد لخص زبدة هذه الضوابط الإمام ابن الجوزي فقال – رحمه الله: «ما أحسن قول القائل: وإذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع»،
فمخالفةُ الحديثِ دلالةَ الكتابِ القطعيةَ أو الأحاديثَ الصحيحة مخالفةً صريحة تسقطه، وكذا مناقضة الحديث صريحَ العقل وبدهياتِه، ومخالفتُه للثابت من التاريخ، ومخالفته للحقائق العلمية القطعية الثابتة التي تقترب من اليقين، لا الفرضيات والنظريات القابلة للتغيير والتبديل … وغيرها من الضوابط التي أعملها المحققون لرد الكذب والافتراء على رسول الله. والكلام في الحديث الموضوع طويل الذيل
أقصد بذلك التوظيف الممنهج والاستغلال السيء للحديث. وهي القراءة المغلوطة والفهم السقيم للأحاديث النبوية والقراءة التجزيئية للسنة النبوية وعدم الجمع والمقابلة بين الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:” وَمَدَارُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ إنما هو الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَعَدَمِ ضَمِّ أَطرافه بَعْضِهَا إلى بعض ؛ فإِن مأْخذ الأَدلة عِنْدَ الأَئمة الرَّاسِخِينَ إِنما هي عَلَى أَن تُؤْخَذَ الشَّرِيعَةُ كَالصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ كلِّيَّاتها وجزئيَّاتها المرتَّبة عَلَيْهَا، وَعَامِّهَا الْمُرَتَّبِ عَلَى خَاصِّهَا؛ وَمُطْلَقِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى مقيدها، ومجملها المفسَّر بمبيَّنها، إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَنَاحِيهَا. فإِذا حَصَلَ لِلنَّاظِرِ مِنْ جُمْلَتِهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام فذلك هو الذي نطقت به حين استُنطقت”.
وهكذا تداول القوم أحاديث فيها احتقار المرأة والإساءة إليها إساءة بليغة فنسبوها زورا وبهتانا لرسول الله، وهو منها براء، وروجوا لأحاديث فيها من العنف والغلو ما يشين عظمة الإسلام، وربما ذكروا أحاديث صحيحة لكنهم فهموها فهما مقلوبا أو فهما غريبا.
وعمد بعضهم إلى السنة فتلاعب بنصوصها وأساء التعامل معها إما جهلا بعلوم السنة أو عن قصد وسوء نية.
وبدل أن تسهم السنة في بناء حضارة إنسانية، وعوض أن تُسْتَثْمَر الأحاديث النبوية في التربية الخلقية والارتقاء بالأمة في طمأنينة وسكينة ورغد من العيش، قَلَبَتْ هذه المناهج المنحرفة حياة الناس رأسا على عقب وحولتها إلى جحيم لا يطاق وكدرت صفو جمال هذا الدين.
ولقد ثبت عند المحققين أن أغلب الأحاديث التي تخالف العقل أو تناقضه أو تخالف أصول الشريعة وتعطي صورة مشوهة عن دين الله هي أحاديث مكذوبة. فأحاديث احتقار المرأة والتنقيص منها مثلا موضوعة ومكذوبة على رسول الله r، ولا يتصور صدور أي تنقيص من رسول الله للمرأة، كيف وهو نصيرها والذاب عنها، والحامي لحقوقها، بل ثبتت عنه على العكس أحاديث كثيرة في تكريمها والرفع من قدرها ومساواتها بأخيها الرجل. وحَسْبُهَا شرفا أن آخر كلام مولانا رسول الله كان وصيته بالنساء خيرا.
فمتى وجدنا حديثا يفهم منه الإساءة إلى المرأة أو وصفها بالدونية عَلِمْنا يقينا أنه حديث مكذوب مفترى على رسول الله، أو أنه حديث صحيح لكنه قرئ قراءة مغلوطة متأثرة بذكورية بعض القوم، وبتقاليد بالية راكدة موروثة ليست من الإسلام في شيء. وقد ردت أم المؤمنين كثيرا من الأحاديث ورفضتها، واشتهر عند العلماء أن أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها رَدَّت روايةَ كثير من الصحابة؛ لمخالفتها لكتاب الله أو للعقل. وألَّف في ذلك الإمام بدر الدين الزركشي(794هـ) رحمه كتابه الماتع: “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة” قال في مقدمته: “وَبَعْدُ! فَهَذَا كِتَابٌ أَجْمَعُ فِيْهِ مَا تَفَرَّدَتْ بِهِ الصِّدِّيْقَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَوْ خَالَفَتْ فِيْهِ سِوَاهَا بِرَأْيٍ مِنْهَا، أَوْ كَانَ عِنْدَهَا فِيْهِ سُنَّةً بَيِّنَةً، أَوْ زِيَادَةُ عِلْمٍ مُتْقَنَةٌ، أَوْ أَنْكَرَتْ فِيْهِ عَلَى عُلَمَاءِ زَمَانِهَا، أَوْ رَجَعَ فِيْهِ إِلَيْهَا أَجِلَّةٌ مِّنْ أَعْيَانِ أَوَانِهَا، أَوْ حَرَّرَتْهُ مِنْ فَتْوَى، أَوِ اجْتَهَدَتْ فِيْهِ مِنْ رَأْيٍ رَأَتْهُ أَقْوَى؛…» وقد وصفها بأنها “الفقيهة الربانية” وقدم الكتاب بذكر ترجمة وافية لها، وأورد نبذا من أخبارها، وخصص الفصل الثاني من الكتاب للحديث عن خصائصها وقد أوصلها إلى أربعين خصيصة. ولا يكاد يخلو مصنف من مصنفات الحديث أو كتب التراجم من ذكر فضائلها ومناقبها.
فلم تمنعها الأنوثة من تعلم العلم، ولم يمنعها الخجل والحياء من أن تَرُدَّ على كبار الصحابة، فصارت مرجعهم، إليها يتحاكمون، وعلى قولها يعولون، وإلى رأيها يؤوبون في كل ما يستشكلون.
ومن نماذج هذه الأحاديث الموضوعة ما روي: «عَن أَبِي ذَرٍّ، أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسَلَّمَ قال: تَقْطَعُ الصَّلاةَ الْمَرْأَةُ والْحِمَارُ والْكَلْبُ الأَسْوَدُ»؛
وما روي عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، قَالَتْ: لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلَابًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ، فَتَكُونُ لِي الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلَالًا».
قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: «وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَقْطَعُهَا شَيْءٌ مِمَّا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَلَوْ كَانَ خِنْزِيرًا وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا مَا يُفْسِدُهَا مِنَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ».
وقال أيضا (أبو عُمر): الآثارُ المرفوعةُ في هذا الباب كلُّها صحاحٌ من جهة النقل، غيرَ أن حديثَ أبي ذَرٍّ وغيرِه في المرأة، والحمار، والكلبِ منسوخٌ ومُعارَضٌ، فممّا عارَضه أو نسَخه عندَ أكثر العلماء حديثُ عائشةَ المذكورُ في هذا الباب».
ومن الأحاديث التي أسيئ فهمها: أحاديث ظاهرها إطلاق لفظ الكفر على مرتكبي بعض المعاصي:
أساءت بعض الطوائف فهم بعض الأحاديث ولم تقف على معانيها فخرجت على الأمة بفكر التكفير، فحملوا الكفر الوارد في تلكم الأحاديث على الكفر المخرج من الملة، وأعوزتهم آليات التعامل مع النصوص وكيفية تفكيك معانيها؛ فأخطأوا في الفهم.
والحق الذي لا مرية فيه أننا إذا أنعمنا النظر في الأحاديث يتبين أن الفهم السليم لهذه الأحاديث وأمثالها هي ما فهمه أسلافنا من العلماء الربانيين، وأن المراد بلفظ “الكفر” الوارد فيها كفر لغوي وليس كفرا شرعيا ، أو هو كفر النعمة ونكران الجميل، وليس الكفر الأكبر المخرج عن الملة، وهو ما يسميه العلماء الكفر الأصغر العملي، وأن العاصي إنما يكفر إذا أتى المعصية مُعانِدًا، مُستكبِرًا، مستحلا لها، غيرَ مُقِرٍّ بحِرمتها جاحِدًا لحكمها، فظاهر هذه الأحاديث غير مراد، وإنما المقصود تَغْلِيظ وَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى والتحذير والتنفير من تلكم المعاصي.
فمن كان خلوا من علوم الحديث، صفرا من علوم الشريعة لا يجوز له أن يتقحم هذا المضمار الصعب، ولا أن يلج في ما لا يحسن، ولا أن يتجاسر على ما لا يتقن؛ لأن الوسيلة التي لا انفكاك عنها لكل من أراد الاقتراب من حديث رسول الله هي حسن فهم الحديث والتضلع من علوم السنة.
أما المنهج الوسط في التعامل مع السنة فهو: [قبولها بشروط]
ومن بين هذه التيارات المتعاملة مع السنة يخرج المنهج الوسط في وسطية واعتدال وابتعاد عن جحود نصوص السنة، ومخالفتها وردها بأهواء النفوس، وبين قبول الغث والسمين والصحيح والمزيف البهرج من الروايات.
وهو المنهج الذي يعتمده علماء مملكتكم الشريفة يا مولاي في التعامل مع السنة بأخذ الصحيح الأصيل الأثيل، واطراح المنكر والدخيل، وكل ما يخالف قطعيات هذا الدين أو يخالف إجماع المسلمين.
مولاي أمير المؤمنين
لا يسعني في هذا المقام إلا أن أذكر على سبيل الفخر والاعتزاز ما تم تحقيقه وإنجازه في عهدكم الميمون من ارتقاء بالخطاب الديني، خدمة لدين الله ولسنة جدكم المصطفى :
مولاي أمير المؤمنين
إن علماء مملكتكم السعيدة مدركون أنهم ينخرطون في نموذج مبتكر تَفَتَّقَتْ عنه عبقريتكم، وهم معتزون بما توليه جلالتكم لقضايا الدين من صنوف الرعاية والعناية بما لا يحيط به عد ولا حصر، وهم فخورون بما تم تحقيقه وإنجازه في عهدكم الميمون الزاهر، وما تقومون به من مبادرات للرقي بالبعد الروحي بكل مستوياته، ثقافيا ودينيا، وذلك من خلال الإصلاحات العميقة، التي تشمل مختلف الهيآت والمؤسسات ذات الصلة بالشأن الديني.
فلا زال النصر يمتد لآرائكم والظفر لراياتكم، والسعد والتوفيق يقترن بكل جهودكم، والنجاح يحالفكم في كل حركاتكم وسكناتكم.
لذا فالعلماء يدعون الله لكم يا مولاي كفاء ما بذلتم من جهد، وما حققتم من مشاريع البر والخير، فنسأل الله جل في علاه أن يعينكم على ما ناطه بكم، ووكله إليكم من تدبير أمور هذا البلد الأمين، والذب عن حياض الدين.
كما نسأله سبحانه أن يقر عينكم بولي العهد وطالع السعد صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وأن ينبته النبات الحسن، وأن يشد عضدكم بصنوكم السعيد صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي رشيد، وبكافة أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
كما نسأله سبحانه في هذا اليوم المبارك الأغر أن يرحم الملكين المجاهدين مولانا محمدا الخامس والملك الباني مولانا الحسن الثاني وأن يُطَيِّبَ ثراهما وأن يجعلهما في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إنه ولي ذلك والقادر عليه
والختم من مولانا أمير المؤمنين