لقد دخل المذهب المالكي إلى القطر المغربي في وقت مبكر، وانتشر في ربوعه، ورحب به أهله، واتبعه علماؤه والتزموا به في الإفتاء والقضاء والتدريس، وذلك لما رأوا فيه من العناصر والمقومات التي تتحقق بها وحدتهم، ويتم بها لَمُّ شملهم. وقد أتيحت لهم كثرة أصوله الاجتهادية ومرونتها، استيعاب ما يجد في حياتهم من نوازل وأحداث، ومعالجة ما يلبي مصالحهم الخاصة والعامة، في إطار المبدأين الراسخين في منهج المدرسة المغربية في تنزيل الأحكام على الواقع، المتمثلين في التيسير ورفع الضيق والحرج، وما يتضمنانه من وسائل الترخيص، والبحث عن إيجاد المخارج الشرعية للناس في معاملاتهم.
وقد صار المذهب المالكي بعدما تبناه علماء المغرب وأولياء أموره عن وعي واقتناع، ثابتا راسخا من ثوابتهم الدينية، ولم يسمحوا بالخروج عنه إلى غيره، إلا في بعض القضايا الجزئية، التي حصرها النوازليون، وبينوا أسباب العدول فيها عن المذهب.
وإدراكا من علماء المذهب بأهمية الحفاظ على الوحدة المذهبية في المعاملات، وفي ممارسة الشعائر، ظلوا حريصين على التزام أقوال أئمتهم في الإفتاء؛ منهم اختار التزام المشهور من الأقوال فقط دون غيره، ومنهم من وسع الدائرة لتشمل المشهور وغيره، خصوصا عندما تقتضي أعراق الناس ومصالحهم وأحوالهم تنزيل غير المشهور.
وجريا على سنن إمام دار الهجرة في ربط الفقه بالواقع العملي، فقد اهتم النوازليون المغاربة بأحوال المجتمع، وفحصوا الأعراف والعوائد السائدة وسط أهله، وخبروا تصرفات الناس وأحوالهم وحيلهم، وذلك من أجل التمكن من التنزيل الصحيح للأحكام على محالها المناسبة، ومناطاتها الخاصة.
وقد أدركوا من خلال عملية ربط الناس بالواقع، أن الاجتهاد في التنزيل لا يقل أهمية من الاجتهاد في فهم النص، واستنباط الأحكام منه، بل إن الاجتهاد في التنزيل، قد يكون أصعب، وذلك لأن أدوات الاجتهاد البياني المرتبط بفهم النص، تحكمه ضوابط صارمة وقواعد مطردة، في حين أن اجتهاد التنزيل تؤطره ضوابط مرنة، وعوامل تتسم بالتغير والتجدد، مما يضطر معه الفقيه النوازلي إلى المتابعة المستمرة، وتجديد النظر في ظروف النازلة وواقعها ومآلها. وهذا يقتضي منه، أن يكون ذا صلة وثيقة بالواقع وما يجري فيه من أحداث، ويطرأ عليه من مستجدات.
وبما أن مجال المداخلة محصور في منهج قراءة نوازليي المدرسة المغربية للنص الديني عموما، والنص الفقهي المالكي على الخصوص، وضوابط تنزيل مقتضياته على الواقع المحلي، في بعديه الشخصي والعام، فإن الحديث سيرتكز أساسا على مفهوم النص الديني الشامل للدليل اللفظي من الكتاب والسنة، ولما استنبط منه من الأحكام الشرعية العملية، وفق منهج إمام دار الهجرة في الاجتهاد.
كما سيرتكز الحديث أيضا على صلة الفقيه النوازلي بالواقع، وعلى الجوانب التي يفترض فيه أن يعرفها منه، وكذا العوامل التي يطلب منه اعتبارها ومراعاتها في واقع الناس، والقواعد الكلية والجزئية التي ينطلق منها ويعتمدها، في عملية ربط الحكم الشرعي بمناطه الخاص.
وقد اقتضى النظر المنهجي توزيع مضامين المداخلة، على المحاور الآتية:
أولا: مفهوم النص والواقع، وصلة الفقيه بهما، وتجديد العلاقة بينهما.
ثانيا: العوامل المعتبرة لدى النوازليين المغاربة في تشخيص الواقع واستقرار أحواله، وفيه عنصران:
– العنصر الأول: مراعاة حال النازلة وظروفها.
– العنصر الثاني: اعتبار مآلها المتوقع.
المراد بالنص في المداخلة، هو ألفاظ القرآن والسنة، وما استنبط منها من الأحكام الشرعية العملية. والنص بهذا المعنى يستوعب اشتغال الفقيه المجتهد، الذي يمتلك أدوات النظر المباشر في نصوص الكتاب والسنة، واشتغال الفقيه المتمذهب الذي يقتصر نظره على ما استنبط من الأحكام العملية داخل مذهبه، وفق أصول إمامه في الاجتهاد، سواء كان من طبقة مجتهدي التخريج، أو طبقة مجتهدي الترجيح، أو مرتبة مجتهدي الفتيا.
أما الواقع، فالمقصود به كما عرفه بعضهم: “ما تجري عليه حياة الناس في مجالاتها المختلفة من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجد فيها من نوازل وأحداث”[1].
والفقيه المشتغل بتنزيل الأحكام على الواقع، سواء كان ممن يمتلكون أدوات النظر المباشر في أدلة الكتاب والسنة، أو كان ممن دونهم رتبة، يفترض فيه أن يكون متصلا بالواقع، منخرطا فيه، مطلعا على أحوال أهله، عارفا بأعرافهم وعاداتهم وأنماط سلوكهم. وليس معنى ذلك، أن يكون عارفا بأدق تفاصيله، لأن ذلك مما يتعذر عليه إدراكه والإحاطة به، خصوصا في عصرنا الحاضر، الذي أصبحت فيه الحياة أكثر تعقيدا وتشعبا من ذي قبل.
ونلحظ أن بعض المتحدثين عن حاجة الفقيه المشتغل بتنزيل الأحكام إلى فقه الواقع، يبالغون أحيانا في رصد الجوانب التي عليه أن يدركها في نظرهم من هذا الواقع، يتصورون أن فقه الواقع بالنسبة للفقيه يجب أن يشمل مختلف مجالات الحياة، وهو تصور غير صحيح، وقد نتج عنه أن كثيرا من الناس أصبحوا يعتبرون جواب رجل الفقه عن قضية من قضايا الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو غيرها من حقول العلم أو المعرفة، خروجا عن مجال اشتغاله ووظيفته، بدعوى جهله بهذه التخصصات العلمية.
إن الفقيه حين يجيب عن مثل هذه المسائل البعيدة عن مجال تكوينه المعرفي، لا يطلب منه شرعا أن يكون ملما بقواعد العلم الذي تندرج فيه هاته المسائل، إنما يطلب منه فقط أن يأخذ تصورا وتشخيصا للمسألة من المتخصص في ذلك العلم، ويبني عليه الحكم. فإذا سئل عن مرض معين، مثل داء السكري مثلا، هل يجوز للمصاب به أن يفطر في رمضان؟ فلا يشترط في صحة إجابته أن يكون عارفا بمرض السكري وأنواعه وأسبابه، بل يكفيه أن يعرف عن طريق طبيب مختص، بأن هذا المرض الصامت يتفاقم خطره بالصوم، ليجيب بأن المصاب به يرخص له أن يفطر ولا حرج عليه، بل قد يجب عليه أحيانا أن يفطر، ويحرم عليه الصوم، وذلك حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة. فإذا أجاب قبل أن يسأل أهل الاختصاص والتجربة، ويأخذ منهم تصورا واضحا للمسألة، فإنه يكون مخلا بمنهج تنزيل الأحكام، وقد لا يقع الحكم المنزل على مناطه الخاص في المسألة؛ لذلك أعاد النوازليون المغاربة النظر في فتوى الشيخ عليش المصري (ت. 1299هـ) – صاحب كتاب “فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك”- في شأن تلقيح الأطفال ضد مرض الجذري. فقد أفتى بتحريم تلقيح الأطفال ضد هذا المرض، غير أن النوازليين المغاربة ناقشوه هذه الفتوى وردوا عليه، منهم المهدي الوازاني في نوازله الكبرى، حيث قال عن الفتوى: “لم يظهر لي وجه القول بالمنع، إذ غاية ما هنالك أن الجذري داء ينزل بالصبيان من جملة الأدواء العارضة، والفصد على الكيفية المعلومة من جملة الدواء الجائز تعاطيه شرعا، بعد نزول الداء أو قبله، حفظا للصحة، كتعاطي الكي والحجامة، من خوف نزول الأضرار التي ينشأ عنها الموت، بمقتضى الحكمة الإلهية”[2].
فالفقيه لا يقدح في مستواه المعرفي بسبب جهله بعلوم وتجارب لا تندرج ضمن صميم اشتغاله، حتى وإن كان مجتهدا مطلقا. لقد كان الأئمة الكبار يستعينون بغيرهم من أهل المهن والتجارب والتخصصات العلمية الأخرى، لأخذ التصور والتشخيص عن المسألة المستفتى في شأنها، قبل تنزيل الحكم عليها؛ فالإمام الشافعي وأبو حنيفة كانا مقلدين في الحديث، كما يقول الإمام الشاطبي، أي كانا في تصحيح الحديث وتضعيفه يقلدان غيرهما من أهل الصناعة الحديثية، ولم يقدح ذلك في اجتهادهم؛ والإمام مالك وإن كان مجتهدا في الحديث، كان يستعين بأهل التخصصات الأخرى وأرباب التجربة، لتشخيص المسألة التي يريد تنزيل الحكم عليها. قال عنه الإمام الشاطبي: “وتراه في الأحكام يحيل على غيره، كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك، ويبني الحكم على ذلك”[3].
فالفقيه وإن كان مجتهدا، يطلب منه أن يبحث عمن يساعده في تشخيص المسألة التي يجهل طبيعتها ووصفها، قبل بناء الحكم عليها. ويجب أن يكون هو وحده من يبني الحكم الشرعي على الواقعة بعد تشخيصها، وألا يشاركه في بناء الحكم على المسألة من ساعده في تشخيصها ووصفها.
وفيه عنصران:
العنصر الأول: مراعاة حال النازلة والظروف المحيطة بها.
من العوامل المعتبرة في مراعاة حال النازلة، الذي هو واقعها والظروف المحيطة بها:
1- العرف السائد في التخاطب، وفي الممارسة العملية:
فإذا كان الحكم منوطا بعرف معين، ثم تغير ذلك العرف، فإن الحكم أو الفتوى تتغير، ويراعى العرف الجديد، ويناط به الحكم المناسب. قال شهاب الدين القرافي: “إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد، مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة بالدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه بتغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة”[4].
ومن المجالات التي يراعى فيها العرف كثيرا، ألفاظ وصيغ العقود العوضية والتبرعية.
ومن القواعد المتداولة في هذا الباب: “المعروف عرفا كالمشروط شرطا”، و”العادة محكمة”، و”الحكم المبني على العرف يتغير بتغيره”…
2- مراعاة مكان ومحل المستفتي:
إن البلدان تختلف من حيث الأعراف والقوانين وأنماط السلوك الاجتماعي، والمذهب الفقهي السائد بالنسبة للبلدان الإسلامية… وهذه الاختلافات يجب أخذها بالاعتبار، أثناء تنزيل الحكم. فالفتوى الموجهة- مثلا- إلى شخص أو فئة تعيش في بلد غير إسلامي، ليست كالفتوى الموجهة إلى من يعيش في بلد إسلامي. وهذا الاعتبار يقتضي أن يكون المشتغل بالفتوى عارفا بأحوال بلد المستفتي، وبالإكراهات والظروف الخاصة التي تحتف به. وقد أدى عدم اعتبار خصوصيات المكان في الفتوى، لدى بعض المشتغلين بالإفتاء، إلى تنزيل أحكام على مناطات غير مناسبة، خصوصا في الفتوى الموجهة إلى الدول غير الإسلامية، مما دفع بعض فقهاء العصر إلى تأليف كتب فقهية ونوازلية خاصة تراعى فيها أحوال وظروف المسلمين في هذه الدول. وقد سمي الفقه الموجه إلى هؤلاء، بـ “فقه المهجر”، وبـ “فقه الجالية المسلمة”، وبـ “فقه الأقليات المسلمة”، وبـ “فقه المسلمين في الدول غير الإسلامية”.
3- مراعاة المذهب الفقهي السائد:
من مقومات الاستقرار واستتباب الأمن الاجتماعي، التقيد بالمذهب السائد في البلد، والتخريج على أصوله وفروعه في القضايا التي ليس فيها لأهل المذهب حكم منصوص عليه. وتجاوز المذهب السائد في البلد، يفضي يقينا إلى فوضى في تدين الناس وممارسة الشعائر، ويخل بالاستقرار والأمن الاجتماعيين، ويوقع الناس في خلافات قد تؤول إلى خصومات، تؤثر سلبا على رابطة الأخوة الدينية؛ لذلك كان الفقهاء النوازليون يحرصون على مراعاة المذهب السائد في تنزيل الأحكام.
إن الفتوى عند النوازليين المالكية وسيلة للإصلاح والتربية والوحدة والاستقرار، الذي ينتج عنه ضبط التدين وحماية الأمن الروحي، ويظهر ذلك بالنسبة للجانب التربوي، في تمهيدهم للفتوى أحيانا ببعض النصوص العامة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة المربين، التي يقصدون بها غالبا تهييئ نفس المستفتي لتقبل حكم الفتوى، والرضا به وتحمله.
ومن أجل تحقيق هذه الغايات الحميدة النبيلة المقصودة للشرع الحكيم، حرص النوازليون المالكية على التزام مذهب الإمام مالك- إمام دار الهجرة رضي الله عنه- أصولا وفروعا، فكانوا لا يخرجون عنه إلى غيره، إلا في حالات نادرة، وبضوابط معينة، تضمن الانسجام مع الأصول والقواعد المقررة عندهم.
فبالرغم من أن بعضهم كانت لهم اجتهادات واختيارات خاصة، انتهوا إليها بإعمال أصول المذهب وقواعده في الاجتهاد والترجيح، فإنهم في مجال الفتوى كانوا يلتزمون بمشهور المذهب وما جرى به العمل، حفاظا على الوحدة المذهبية المفضية إلى الاستقرار، لذلك لا نستغرب حين نقرأ أن المازري وابن رشد الجد وابن العربي والشاطبي ونظراءهم ممن كانوا مجتهدين داخل المذهب، كانوا يلتزمون روايات وأقوال المذهب في التنزيل.
4- مراعاة حال المستفتي:
إذا كانت الفتوى تخص المستفتي شخصيا، فلابد من مراعاة حاله، ليعلم: هل يناسبه حكم العزيمة أو حكم الرخصة؟ وهل وقع منه الأمر المسؤول عنه فلتة، أو كان مصرا عليه؟ وهل سأل ليعرف الحكم فقط، أو من أجل معرفة الحكم وتطبيقه؟…[5]
وإذا كانت الفتوى في النازلة تخص المجتمع أو الشأن العام، فلابد من أخذ تصور واضح عنها، يشخص نوعها وطبيعتها وسياقها ومجالها والعوامل التي أفرزتها، وهل صارت ظاهرة قد عمت بها البلوى أم ما تزال في طور النشوء؟ وهل يناسبها حكم الترخص والاستثناء، أو يناط بها حكم العزيمة؟
وفيما يخص الترخص في قضايا الشأن العام، يلاحظ أن بعض المشتغلين بالفتوى لا يراعونه كثيرا، حيث يسوون بين النازلة الحادثة في ظرف طارئ استثنائي، كأحوال الحروب وزمن الأوبئة، وبين النازلة الواقعة في الظروف العادية. وهذا يعد إخلالا بضوابط الفتوى، وطريقة صنعها. يقول الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: “ومن أعظم ما لا ينبغي أن ينسى عند النظر في الأحوال العامة الإسلامية نحو التشريع، هو باب الرخصة، فإن الفقهاء إنما فرضوا الرخص ومثلوها في خصوص أحوال الأفراد، ولم يعرجوا على أن مجموع الأمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة، كما قدمناه في فصل الرخصة”[6].
5- اعتبار القرائن:
القرائن المحتفة بالنازلة وصاحبها، المثيرة لشبهة أو تهمة، يجب أخذها في الاعتبار، واعتمادها في تحقيق مناط الحكم. قال القصري: “والقرائن معمول بها في الفتوى والحكم”[7]. وقال الوازاني في نوازله الصغرى: “ومن المقرر المعلوم، أنه يجب على القاضي كالمفتي، أن يعتبر القرائن المحتفة بالنوازل”[8].
وهذه القرائن وما تثيره من الشبه والتهم، من العوامل التي يبنى عليها أصل الذرائع سدا أو فتحا، وذلك لأن بعض التصرفات المشروعة، قد تتخذ مطية وذريعة إلى ما ليس مشرعا.
ومن المسائل التي روعيت فيها القرائن المثيرة للتهمة:
أ- الطلاق في حال المرض المخوف:
فاقتران المرض المخوف بالطلاق، يثير تهمة قوية حول تصرف المطلق وقصده، لذلك اعتبره الفقهاء-خصوصا المالكية- طلاقا واقعا ونافذا، ولكن المطلقة لا تحرم من الإرث، ولو خرجت من العدة، بل ولو تزوجت زوجا آخر قبل وفاة المطلق المريض؛ وذلك لأن المطلق يتهم بأنه قد قصد بطلاقه حرمان المطلقة من إرثه، فيعامل بنقيض قصده، مراعاة لحق المرأة. وكذلك الزواج في حال المرض المخوف، لا يقع صحيحا، لاتهام الناكح بأنه يقصد التضييق على الورثة، بإدخال وارث جديد عليهم …
ب- العينة وبيوع الآجال:
وهي بيوع ظاهرها الجواز، لكنها قد تتخذ مطية إلى ما لا يجوز. ومن يقرأ باب بيوع الآجال، وباب الذرائع الربوية في كتب الفقه المالكي، يلحظ أن هذه البيوع ظاهرها السلامة، وهي صحيحة من حيث الشروط والأركان، بيد أنها يتذرع بها إلى بيوع غير صحيحة؛ وذلك مثل أن يطلب شخص من آخر أن يقرضه مبلغا من المال بزيادة معينة إلى أجل، فيرفض لوجود زيادة مشروطة في القرض مقابل الأجل وهو ربا، فيقترح على طالب القرض أن يبيع له بذلك المبلغ المطلوب سلعة معينة إلى أجل، ويشتريها منه حالا بثمن معجل أقل من الثمن المؤجل.
ج- اشتراط الخلطة في إيجاب اليمين على المدعى عليه:
وذلك في المواضع التي تحتف بها قرائن، تدل على أن المدعي يقصد استغلال المدعى عليه، أو احتياله على أخذ ماله بدون وجه حق؛ مثل أن يدعي شخص معروف باحتياله على أكل أموال الناس بالباطل، أن له دينا على رجل معروف بصلاحه وورعه، ومعروف بأنه يتحاشى الحلف ويستعظمه، وإن كان محقا، وأنه قد يقبل أن يؤدي ما ادعي به عليه ظلما ولا يحلف. فالمدعى عليه في هذه الحالة، لا يتوجه إليه الحلف، حتى يثبت المدعي “الخلطة”، أي يثبت تعامله مع المدعى عليه بيعا وشراء قرضا واقراضا. وإن لم يثبت “الخلطة”، فلا يمين على المدعى عليه، وذلك بالرغم من أن القاعدة الشرعية تقتضي أن يحلف المدعى عليه في حال عجز المدعي عن إقامة البينة على دعواه. وهذا يدل على أن من يفتي الناس، يجب أن يكون عارفا بأحوالهم وأوضاعهم وحيلهم…
العنصر الثاني: مراعاة المآل المتوقع واعتباره.
بعد تصور النازلة في واقع حالها، ينتقل نظر المفتي إلى استحضار مآلها المتوقع، انطلاقا من نوع الحكم المزمع إناطتها به. ويتمثل المآل في التداعيات والعواقب والآثار، التي تفضي إليها الفتوى؛ وذلك لأن الشيء قد يكون مشروعا باعتبار الحال، وممنوعا باعتبار المآل، لما يفضي إليه من مفسدة راجحة، فيعطى حكم المآل في المنع، بناء على قاعدة سد الذرائع.
ومراعاة المآل في تنزيل الأحكام، أصل معتبر لدى النوازليين عموما. وبالنسبة للمدرسة المالكية، يعد اعتبار المآل خاصية من خصائصها؛ وذلك لكثرة اعتماده في التنزيل لدى فقهائها، اتباعا لإمامهم مالك رضي الله عنه، الذي كان يعتمد هذا الأصل في فتاواه. وقد ذكر ابن العربي في كتابه “القبس”، كثيرا من الفتاوى التي اعتمد فيها الإمام مالك أصل اعتبار المآل، ويقول في تعليقه عليها: “ومالك إنما نظر إلى المآل، فركب عليه حكم الحال”. ويقول الإمام الشاطبي عن أهمية النظر في المآل: “النظر في مآلات الأفعال معتبر، مقصود شرعا”[9]، ويقول في وصف الفقيه الرباني الراسخ في العلم: “هو الناظر في المآلات، قبل الجواب عن التساؤلات”[10].
أمثلة للفتاوى التي روعي فيها المآل:
1- بيع المضغوط: المضغوط هو المكره على البيع، أو على سببه؛ بأن يكره على دفع مبلغ من المال ظلما، فيبيع شيئا من ممتلكاته من أجل ذلك. فالمشهور في المذهب المالكي، أن بيع المضغوط لا يصح، ويفسخ إذا وقع، لاقترانه بالإكراه المؤثر في الرضا والإرادة؛ غير أن النوازليين المالكية المتأخرين، أفتوا بجواز الشراء من المضغوط، إنقاذا له من العقوبة السجنية أو غيرها، بل إن بعضهم استحب الشراء منه إذا كان بثمن السوق. وقد بني اعتبار المآل هنا، على الاستحسان المتضمن للالتفات إلى المصلحة.
2- ومن الفتاوى التي روعي فيها المآل في ظل انتشار عدوى وباء كورونا، إغلاق المساجد، ومنع إقامة صلاة الجمعة والعيدين، والتراويح. فقد أصدرت الهيئات المكلفة بالإفتاء، فتاوى بمنع إقامة هذه الشعائر في ظل انتشار كوفيد 19، حفاظا على صحة الناس وأرواحهم. وهذا المآل المعتبر شرعا، لم يلتفت إليه بعض المشتغلين بوعظ الناس، فأحدثوا بسبب عدم مراعاته تشويشا على الناس، بدعوتهم إلى الإبقاء على ممارسة هذه الشعائر، كما كان عليه الحال في الأحوال العادية قبل ظهور الوباء، ولم يفرقوا بين الأحوال العادية والظروف الاستثنائية.
3- دخول الزوج الحمام مع زوجاته: ذكر أبو بكر المالكي في كتابه “رياض النفوس”[11]، أن أحد أمراء القيروان سأل قاضييه في مجلس واحد عن حكم دخوله الحمام مع نسائه، فأفتاه أحدهما بالجواز، والآخر بالمنع. فلما سئل المفتي بالمنع عن موجب قوله بالمنع، قال: لأن المرأة للمرأة أجنبية. وهذا المآل لم ينتبه إليه المفتي بالجواز؛ لأنه اعتبر الحال فقط، وهو جواز رؤية الزوج عورات زوجاته.
والخلاصة، أن عملية تنزيل الأحكام على الواقع، حينما يراعى فيها الحال والمآل بالكيفية المذكورة، وتراعى فيها ضوابط التنزيل المعتبرة، ويتم ذلك في إطار الوحدة المذهبية، التي تضمن الاستقرار، وتبعد التشويش عن الناس بذكر أقوال المذاهب الأخرى، أقول: حينما يراعى فيها ذلك، فستكون أداة للاستقرار، ووسيلة للحفاظ على التدين الفردي والجماعي، وحماية أمن المجتمع.
[1]– انظر كتاب فقه التدين، الدكتور عبد المجيد النجار.
[2]– النوازل الكبرى 1/80.
[3]– الموافقات، القسم الخامس، كتاب الاجتهاد، صفحة 786.
[4] – الإحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي، ص213.
[5]– سبق الحديث عن ذلك في ص 3.
[6]– مقاصد الشريعة الإسلامية، ص155، دار سحنون.
[7]– نوازل القصري، 4/364.
[8]– النوازل الصغرى، للمهدي الوازاني، 2/92.
[9]– الموافقات، 4/194.
[10]– الموافقات، 4/232.
[11]– رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية، 1/274.