رسوخ العقيدة الأشعرية في الثوابت المغربية



رسوخ العقيدة الأشعرية في الثوابت المغربية

ذ. سعيد شبار

كلية الآداب والعلوم الإنسانية- بني ملال

 

معلوم أن لكل ثابت من الثوابت الدينية المغربية خصائص تميزه عن غيره من الثوابت المذهبية الأخرى، على صعيد الفقه والعقيدة والسلوك والسياسة؛ وأن تلك الثوابت في مجموعها هي التي صاغت وشكلت الخصوصية الدينية المغربية عبر التاريخ، وأسست للتدين المغربي المعتدل النافي لكل أشكال الغلو والتشدد.

ولعلم العقيدة الاشعرية ضمن هذا النسق من الثوابت مكانة المصدر والمرجع التأطيري والتوجيهي، وذلك من جهة استناده إلى أصل الإيمان الملهم والمغذي لسائر العلوم والمعارف، والممد لها بالمعنى وأسرار الخلق والوجود؛ ومن جهة جمعه بين النظر والاستدلال العقلي وبين الالتزام السلوكي والعملي كذلك. ولقد انعكس هذا المنهج في العقيدة الأشعرية على سائر الثوابت الأخرى، في الفقه وفي التصوف، بل وعلى سائر العلوم والمعارف، في التفسير، والحديث، والأصول، واللغة… وغيرها. وذلك لأن المتكلمين الأشاعرة أغنوا إسهامهم الوفير في تلك العلوم باختيارات هذا المذهب الموسعة، وبعدها عن منطق الخصومة والتقاطب الثنائي بين الاختيارات المختلفة ما أمكن.

ولقد ساعد على هذا الأمر كذلك كون الاختيار الفقهي المالكي مبني هو كذلك على أصول وأدلة متعددة، استوعبت ما تفرق في غيره، ومنحته قدرة على المواكبة والاجتهاد ورعاية المصالح وتدبير الاختلاف، بالإضافة الى حرصه على لزوم السنة ومنهج السلف في فهم النصوص والعمل بها من غير غلو وتشدد؛ كما ساعد عليه كون التصوف السني مستند ومقيد بدوره بنصوص الدين والتشريع، متحرر إلى أبعد حد من نزعات الإشراق والعرفان الباطني.

هي اختيارات إذن بينها جوامع مشتركة أسهمت في حل مشكلات كثيرة في ثقافة المسلمين، وخصوصا ما كان مطروحا من خصومات بين التيارات المغالية في التأويل أو في التفويض، في إعمال النقل أو العقل، في لزوم الظاهر أو الباطن، في تكفير المخالف أو تفسيقه… حيث قدم العرض الأشعري

تركيبا مندمجا لتلك الثنائيات بإعمالها كلها وعدم إهمال شيء منها، بناء على منهج القرآن والسنة في عرض الحقائق الإيمانية والعملية، الخادمة للإنسان في جوانبه المختلفة، جسدا وعقلا وروحا، بالتوازن والاعتدال المطلوب. ولهذا لم تكن ثمة مشكلة في أن يتكامل وينسجم هذا المركب من الاختيارات، وأن يكون أصحابه في الوقت نفسه متكلمين وفقهاء وصوفية.

1 ـ النسق العقدي الأشعري اختيار جل فقهاء الأمة

لقد تبلور النسق العقدي الأشعري ضمن ظروف دقيقة من تطور المقولات الكلامية في الأمة، حيث هيمنت بشكل قوي تيارات بينها من الاختلاف أكثر ما بينها من الائتلاف، حيث نزع بعضها وبشكل مفرط إلى النفي والتأويل تقوده المعتزلة، وبعضها إلى الإثبات والتجسيم تقوده المشبهة، وآخرون إلى فصل الإيمان عن العمل كما لدى المرجئة، وآخرون مكفرون بالأعمال تقوده الخوارج…

كانت الأمة بحاجة ماسة إلى صياغة عقدية جامعة، بحيث تكون وحدتها وانسجامها إحدى ثمار التوحيد والإيمان وليس العكس. وحيث ينعكس منهج الدين في اعتداله وسماحته، كما هو مقرر في القرآن والسنة، على حياة المسلمين عامة، وعلى مناهج نظرهم وطرق جدالهم وكلامهم واستدلالهم خاصة.

وهذا ما انتدبت المدرسة الأشعرية نفسها له، إذ كانت حركة إنقاذ كبرى آوت إليها الغالبية العظمى من علماء وفقهاء الأمة، الذين كانت تتوزعهم المقولات السابقة. حيث وجدوا فيها تقريرا وتوكيدا لمنهج السلف معضدا بالأدلة، يقول الإمام تاج الدين السبكي في ذكر الآخذين عنه [الإمام الأشعري]، والآخذين عمن أخذ عنه: “اعلم أن أبا الحسن لم يبدع رأيا ولم ينشئ مذهبا، وإنما هو مُقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عَقَدَ على طريق السلف نطاقا وتمسك به؛ وأقام الحجج والبراهين عليه. فصار المقتدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريا”.[1]

ولقد احتفى فقهاء الغرب الإسلامي بالمذهب الأشعري وبصاحبه أبي الحسن منذ وقت مبكر[2]، نذكر منهم ابن أبي زيد القيرواني (386هـ)، وأبي الحسن القابسي (403هـ)، وأبي عمران الفاسي (430هـ)، وابن رشد الجد (520هـ)، كلهم في الدفاع والتنويه بفضل أبي الحسن ومذهبه وأتباعه.

أما ابن أبي زيد القيرواني (تـ 386هـ) فقد ذكر القاضي عياض أن له صلة وطيدة بأبي عبد الله بن مجاهد الطائي (تـ 370هـ) تلميذ أبي الحسن الأشعري وشيخ الإمام الباقلاني، كان “مالكي المذهب إماما فيه مقدما غلب عليه علم الكلام والأصول”. وقد “استجاز الشيخ أبا محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب المختصر والنوادر”[3]. وذكر له ابن عساكر رسالة كتبها “جوابا لعلي بن أحمد ابن إسماعيل البغدادي المعتزلي حين ذكر أبا الحسن الأشعري رضي الله عنه ونسبه إلى ما هو بريء منه، مما جرت عادة المعتزلة باستعمال مثله في حقه. فقال ابن أبي زيد في حق أبي الحسن: هو رجل مشهور أنه يرد على أهل البدع، وعلى القدرية والجهمية، متمسك بالسنن”[4].

وأما أبو الحسن القابسي (تـ 403هـ) فقد ذكر له ابن عساكر جوابا لسؤال سأله عنه بعض أهل تونس من بلاد المغرب، فكان جوابه: “واعلموا أن أبا الحسن الأشعري رضي الله عنه لم يأت من هذا الأمر -يعني الكلام- إلا ما أراد به إيضاح السنن والتثبيت عليها ودفع الشبه عنها. فهمه من فهمه بفضل الله عليه، وخفي عمن خفي بقسم الله له. وما أبو الحسن الأشعري إلا واحد من جملة القائمين بنصرة الحق، ما سمعنا من أهل الإنصاف من يؤخره عن رتبته تلك. ولا من يؤثر عليه في عصره غيره ومن بعده من أهل الحق”.[5]

وذكر القاضي عياض أن ممن تتلمذ على الباقلاني كذلك من أهل المغرب “أبو عمران الفاسي(430هـ)، رحل إليه وأخذ عنه. قال أبو عمران: رحلت إلى بغداد وكنت قد تفقهت بالغرب عند أبي حسن القابسي وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر [الباقلاني]، ورأيت كلامه في الأصول والفقه، والمؤتلف والمختلف، حقرت نفسي وقلت: لا أعلم من العلم شيئا ورجعت عنده كالمبتدئ.”[6] وذكر عياض أيضا أن الباقلاني كان يعجبه حفظ أبي عمران ويقول له: “لو اجتمعت في مدرستي أنت وعبد الوهاب بن نصر، وكان إذ ذاك بالموصل، لاجتمع فيها علم مالك. أنت تحفظه وهو ينصره، ولو رآكما مالك لسر بكما. قال ابن عمار في رسالته، فذكره فقال: كان [أبو عمران] إماما في كل علم نافذا في علم الأصول مقطوعا بفضله وإمامته، ولما دخل بغداد شاع أن فقيها من أهل الغرب مالكيا قدم. فقال الناس لسنا نراه إلا عند القاضي أبي بكر الباقلاني وهو إذ ذاك شيخ المالكية بالعراق وإمام الناس.”[7]

وفي جواب أبي الوليد بن رشد عن سؤال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، نجد هذه المعاني حاضرة بقوة؛ فمما جاء في السؤال بعد ذكر الأئمة: أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأبي بكر بن فورك، وأبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي، ونظرائهم: “أهم أئمة رشاد وهداية، أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما تقول في قوم يسبونهم وينتقصونهم؟” وجاء في الجواب: “هؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء؛ لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات (…). فمن الواجب أن يُعترف بفضائلهم ويُقر لهم بسوابقهم (…) فلا يَعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق مائل”[8].

وكان ممن خدم المذهب الأشعري في هذا الوقت المبكر أعلام آخرون نذكر منهم أبا بكر بن أبي الحسين المرادي الحضرمي (تــ 489هــ). حيث قال عنه صاحب التشوف: “وكان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى فنزل بأغمات وريكة”[9]. ويوسف بن موسى الكلبي المتكلم النحوي أبو الحجاج الضرير، قال عنه القاضي عياض: “كان من المشتغلين بعلم الكلام على مذهب الأشعرية ونضار أهل السنة (…)، وسكن بلادنا مدة وتردد بالأندلس والمغرب، وكان آخر المشتغلين بعلم الكلام بالمغرب. قرأت عليه أرجوزته الصغرى التي ألف في الاعتقادات وحدثني بالكبرى و بكتاب التجريد لأبي بكر المرادي”[10].

وجاء بعد هؤلاء جيل من الفقهاء رسخوا هذا الوجود العقدي وقدموا له خدمات جليلة من أمثال القاضي أبي بكر العربي (543هـ)، والقاضي عياض السبتي (544هـ)، وأبي عمرو عثمان السلالجي (574هـ)، إلى الإمام السنوسي (895هـ). فالقاضي عياض نفسه الذي اقتبسنا منه النقول السابقة، له كلام نفيس في تقريض هذا المذهب وطريقته. يقول عن أبي الحسن إنه: “صنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته وقِدم كلامه، وقدرته وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة؛ فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة، والدلائل الواضحة العقلية؛ ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة”[11]. وقال: “فلما كثرت تواليفه وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه ودرسوا عليه وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة وبسط الحجج والأدلة في نصرة الملة (…). فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون وعلى منهاجه يذهبون…”[12].

فالقاضي عياض يقرر هنا بوضوح تمثيل الأشعرية لمدرسة السنة، وأصالة منهجها المستمد من الكتاب والسنة والمعضد بالبراهين والأدلة، وقدرته على دفع البدع ورفع الشبهات، حيث تم الانتفاع به في بناء العلوم، في الفقه والحديث والتفسير والأصول والتصوف، وغيرها من العلوم التي تُنصر بها الملة، ويُدحضُ بها الغلو الذي انتقده على غلاة المعتزلة في التأويل، وغلاة الحنابلة في التشبيه، ومن حدا حدوهم.

إن المناخ الفكري السني المعتدل، الذي وفره المذهب المالكي على يد الفقهاء الذين اعتنوا به أصولا وفروعا، ولم ينساقوا وراء أي من التيارات الوافدة، قد ساعد على قبول العقيدة الأشعرية والتمكين لها في هذه البيئة؛ وذلك لاشتراكها مع هذا الفقه في خصائص الاعتدال المستمدة من نصوص الدين المقررة في الكتاب والسنة. وهذا ما يفسر كذلك كون كل الفقهاء المالكية أشاعرة، وقد قال ابن السبكي: “إن المالكية أخص الناس بالأشعري، إذ لا نحفظ مالكيا غير أشعري، ونحفظ من غيرهم طوائف جنحوا إما الى اعتزال أو الى تشبيه”.[13] ولقد كان للإمام الباقلاني أثر كبير في هذا الجمع بين المذهبين؛ لكونه، من جهة، مالكيا أشعريا؛ ولكون فقهاء المغرب الأوائل قد أخذوا عنه، أو على الأقل تأثروا بذلك[14]. هذا قبل أن يظهر تأثير آخر للإمام الغزالي في الجانب الصوفي خصوصا. ورغم كل ذلك بيَّأ المغاربة اختياراتهم ووطَّنوها من جديد وكأنها خلقت نشأة وابتداء في بلادهم.

لقد كانت الأشعرية نسقا فكريا مُركبا، على منهج القرآن في تركيب ودمج المعرفة في توازن واعتدال، وذلك من خلال منهج بنائي تأسيسي -وليس توفيقا أو تلفيقا-[15]، حيث أسهمت في حل إشكالات إعمال العقل والنقل، والتفويض والتأويل، والجبر والاختيار، والتكفير بالأعمال، والكلام، والرؤية، وعدم تكفير المخالف… عاكسة في ذلك منهج الدين الكلي الجامع في بناء الإيمان تصديقا، على النظر العقلي برهنة واستدلالا، وعلى السلوك العملي تحققا وممارسة. وكما قال ابن عساكر عن الإمام الأشعري: “ألزم الحُجة لمن خالف السنة والمحجة إلزاما، فلم يسرف في التعطيل، ولم يغل في التشبيه، وابتغى بين ذلك قواما”.[16]

2 ـ العقيدة الأشعرية وتكامل الاختيارات المذهبية

انطلاقا من هذه السعة في الرؤية والمنهج، لم تجد الأشعرية إشكالا في الامتداد والتواصل مع ما جاء في الاختيارات المذهبية الأخرى في الفقه والسلوك خصوصا؛ ولم تعرف في الخصوصية المغربية نفس الصراع والنزاع الذي عرفته في المشرق. ومرد ذلك إلى اعتبارات عدة يمكن إجمالها في كون هذه الاختيارات تشترك في جعل النص (قرآنا وسنة) مُنطلقها وحاكما بينها، فهو المصدر الأول الملهم لها جميعا، وليس مقولات التاريخ أو المقولات المستعارة من الأمم الأخرى؛ وما خالف النص مخالفة صريحة فلا اعتبار له. وإذا كان هذا واضحا في العقيدة والفقه، من حيث استنادهما واستمدادهما من النصوص، فإنه مقرر أيضا في النموذج السلوكي الصوفي الذي اختاره المغاربة، طريقة الإمام الجنيد السالك الذي يجزم بقوله: “عملنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة”، وأن “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه”، وأن “علم الباطن (أي التصوف) لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر (أي الفقه). فمن عرف علم الظاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن”.[17]

إن السلوك والتصوف، النازع في كثير من الديانات الى الباطنية والعرفان، والمنجذب أكثر إلى الإشارات والرموز، يقيد نفسه في الخصوصية المغربية بظاهر الدين والشريعة، ويجعل من هذا الظاهر مدخلا للارتقاء في مدارج التربية والتزكية؛ ومن ثم لم يخاصم الفقه التصوف، ولم يخاصما معا العقيدة ولا أرباب الكلام، إذ معظم المتكلمين في هذا النموذج هم فقهاء صوفية.

يقول ابن عساكر في بيان اتباع أصحاب المذاهب الفقهية لأبي الحسن الأشعري: “فلما كثرت تواليفه، ونصر مذهب السنة وبسطه، تعلق بها أهل السنة من المالكية والشافعية وبعض الحنفية، فأهل السنة بالمغرب والمشرق بلسانه يتكلمون وبحججه يحتجون”.[18] ونقل ابن السبكي في طبقاته عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: “أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة، ووافقه على ذلك في عصره شيخ المالكية في زمانه أبو عمر بن الحاجب، وشيخ الحنفية جمال الدين الحصيري”.[19]

يُلحظ هذا التداخل والارتباط بين العقيدة والفقه والسلوك، كذلك، من خلال التكامل والارتباط المتين بين ما هو إيماني تصديقي، بما هو عملي سلوكي وبما هو روحي شهودي. ولقد جمع العارف أحمد بن عجيبة في التفاتة نبيهة، بين هذه المقامات الثلاثة، انطلاقا من حديث جبريل عليه السلام في بيان الإسلام والإيمان والإحسان. فالتصوف عنده: “تفسير لمقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان”، و”علم الكلام تفسير لمقام الإيمان”، و”علم الفقه تفسير لمقام الإسلام”.[20] فقدم الإحسان لأنه كما قال “مقام الشهود والعيان”، أي غاية الإتقان في التعبد والتقرب وكأنك ترى الله تعالى، فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ ولهذا ارتفع التصوف عنده إلى: “سيد العلوم ورئيسها ولباب الشريعة وأساسها”. وجعل علم الكلام تفسيرا لمقام الإيمان في بيان مقتضياته في: الأسماء والصفات، والبعث المعاذ، والنبوات والحساب والجزاء… وغيرها. كما جعل علم الفقه تفسيرا لمقام الإسلام، من حيث بيان الأحكام التكليفية الظاهرة في العبادات وسائر الطاعات. فهذه الأصول والأركان الثلاثة تشتغل مجتمعة لا متفرقة كل منها يمد غيره ويستمد منه، وكل منها يغذي جانبا من الاحتياجات الدينية لدى المكلفين.

ونقتبس في هذه العجالة من الشيخ زروق، محتسب الصوفية، تأكيده لهذه الصيغة من التكامل والتجلي بين العقيدة والفقه والتصوف قوله: “لا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه.. ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجُّه؛ ولا هما معا إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه. فلزم الجميع لتلازمها في الحكم تلازم الأرواح للأجساد”.[21]

والشيخ زروق هنا، على خلاف ابن عجيبة، يجعل الإيمان أصلا مهيمنا على الفقه والتصوف، بحيث “لا يصح واحد منهما دونه”، لأنهما في واقع الأمر خادمان له، أحدهما من جهة إصلاح الظاهر، والثاني من جهة إصلاح الباطن، وهو المحرك المغذي لهما في الحالين معا.

وقد التمس الشيخ زروق تأويلا لطيفا لمقولة الإمام مالك: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”. قال: “تزندق الأول لأنه قال بنفي الجبر الموجب لنفي الحِكم والأحكام”، أي قارنه بالجبرية التي تعطل الأعمال ظنا منها أن ما وقر من القلب من تصديق كاف وإن لم يصاحبه عمل الظاهر. قال: “وتفسق الثاني لخلو عمله من التوجه الحاجب عن معصية الله تعالى وعن الإخلاص المشترط في العمل”. أي الظاهري الذي لا يرى حكما ولا أسرار في الأحكام، والذي قد يذهب عنه الإخلاص فيها ويفقده الصدق منها قد تكون مقبولة. قال: “وتحقق الثالث لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق”[22]. فهذه الثوابت إذن ليست مطروحة للاختيار فيما بينها، بحيث يأخذ ببعضها ويترك الآخر، فهي ضرورية للمبتدئين مجتمعة لا متطرفة، يجتهد في أن يكون له تحقق بكل واحد منها، كاجتهاده في الإسلام والإيمان والإحسان.

نجد الشيخ زروق في مكان آخر يجعل من “الفقه والتصوف شقيقين في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه”، وإن دعت الضرورة إلى إنكار إحداهما على الآخر فعنده يصح إنكار الفقيه على الصوفي ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه. ولزم الرجوع من التصوف إلى الفقه، فإذا كان ]أي التصوف[ أعلى منه مرتبة، فإن الفقه أسلم وأعلم منه مصلحة”[23].

لكن من جهة الإحاطة والشمول، نجد العلامة الحسن بن مسعود اليوسي يعد التصوف أعم من الفقه “لأن الفقيه اهتمامه بالأحكام الشرعية الظاهرة من حيث سقوط الحرج والذم، وحصول الأجر، وانضباط أمر المعاش. والصوفي اهتمامه بالأحكام الشرعية الظاهرة والباطنة، من حيث طلب الكمال وإقامة العبودية لحق الربوبية”.[24] وفي تعريفه للعلم يجعله على ثلاث:

“أولها: علم أصول الدين، وهو تصحيح العقيدة على طريقة أهل السنة رضوان الله عليهم (…)

الثانية: علم الفقه، بأن يعرف ما يلزمه في خاصة نفسه من العبادات وأحكامها (…).

الثالثة علم الباطن، بأن يعرف ما يلزمه في توجهه من الإخلاص والاتصاف بمحامد الصفات والتخلي عن مذامها”[25].

وليس الأمر ههنا للمفاضلة، وإنما لتكامل وتداخل هذه الثوابت وارتباطها بالمكلف المستخلف؛ فكل منها يُبرز لنا من جانبه فضائل ومزايا، وإن كان رأسها وأسها العقيدة والإيمان. يقول العلامة علال الفاسي رحمه الله: “ومما امتاز به التصوف المغربي أن معظم رجاله ودعاته من أهل العلم بأصول الدين وفروعه علم الكلام والفقه[، ولذلك فهم يعرفون كيف يكيفون آراءهم وقلما تجدهم مصطدمين مع العلماء كما وقع في المشرق العربي. وما وقع من اضطهاد بعض المتصوفة إنما كان لأسباب سياسية محضة. والتصوف المغربي إلى جانب الفقه المالكي له الأثر الفعال في توجيه كل الأفكار والسياسات التي جرت في بلادنا. فالفقه والتصوف عنصران أساسيان في تكييف المجتمع المغربي وتسييره”.[26] كما يذهب إلى الربط بين العقيدة والتصوف، ويعتبر أن “المذهب الأشعري انتصر في العقيدة بفضل انتصار تعاليم الغزالي الصوفية (…) ]و[ أن تثبيت العقيدة أيام المرابطين على أساس سلفي، هو الذي يسر قبول الطريقة الأشعرية التي ليست إلا برهنة للعقيدة السنية”.[27]

3 ـ التكامل على مستوى مباحث العلوم وتراجم العلماء

يتجلى هذا التداخل والتكامل في المباحث المشتركة بين العقيدة وأصول الدين وبين الفقه وأصوله؛ من قبيل مباحث: التكليف والمكلف والمكلف به، والحكم الشرعي، والأمر والنهي، والعموم والخصوص، والمصالح والمفاسد، والإجماع والقياس، وخبر الواحد، وقول الصحابي، والخير والشر، والحرية والإكراه، والنظر وما يتعلق به، والعلم وأقسامه، والعقل… فهذه وغيرها مباحث مشتركة بينها تشتغل عليها جميعها. بل ونجد مباحث مشتركة بين الكلام والتصوف من قبيل: الصورة، والنفس، واللقاء، والنور، والحجاب، والقرب، والخروج، والبروز، والتجلي، والظهور، والحياء…وغيرها؛ وإن اختلفت مداخل النظر إليها وتفسيرها. كما نجد فقهاء يفتتحون كتبهم الفقهية بمقدمات عقدية، يؤكدون فيها هذا التلازم بين الأحكام وأصلها الإيماني، مثل ما فعل ابن أبي زيد القيرواني في رسالته حيث تحدث في مطلعها عن “باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات”؛ ومثل ما فعل ابن عاشر في المرشد المعين الذي نص فيه على هذه الاختيارات في نظمه الرائق:

الحمد لله الذي علمنا                من العلوم ما به كلفنا

صلَّى وسلمَ على محمد              وآله وصحبه والمقتدِي

وبعد فالعون من الله المجيدْ          في نظم أبيات للأمي تفيدْ
في عَقْدِ الأشعري وفقه مالكْ         وفي طَريقَةِ الجنيد السالكْ.

وصدره بدوره بـ “مقدمة لكتاب الاعتقاد معينة لقارئها على المراد”.

وهذا، ونظيره، ما رسخ مبدأ التكامل والتداخل بين العلوم، ومد جسورا للعبور والتواصل بينها؛ حيث تحصر العقيدة كخلفية للتأطير والتوجيه، ويحضر الفقه كتطبيق عملي لها والتصوف كتزكية وترقية للنفس. يقول ابن العربي المعافري المتكلم المفسر الفقيه… مجسدا لهذا المنحى: “كنت أفضت في “أنوار الفجر بمجالس الذكر” في أنواع العلوم الشريفة، من التوحيد والأحكام، ومقامات الأعمال، وآفات القلوب والأحوال، وما سارت به الركبان وتعطر بأرجه الزمان(…)، وبقي علم التذكير المتعلق بالأعمال والمقامات، وسنح خاطر خير في العطف إليه”.[28]

ونجد كذلك الإمام القشيري يعقد الفصل الأول من رسالته في التصوف “في بيان اعتقاد هذه الطائفة في مسائل الأصول”، أي أصول الدين، حيث يقول: “اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، وصانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم؛ ولذلك قال سيد هذه الطريقة الجنيد رحمه الله: التوحيد إفراد القدم من الحدث”.[29]

ولما أراد صاحب التشوف، ابن الزيات التادلي، أن يتحدث عن كرامات الأولياء التمس شواهده في ذلك من كبار متكلمي الأشاعرة من أمثال الباقلاني والجويني والغزالي والشهرستاني؛ ننقل نصه على طوله لكونه دالا على الغرض هنا حيث يقول: “اعلم أن كرامات الأولياء جائزة عقلا ومعلومة قطعا، وممن قال بها إمام المتكلمين القاضي أبو بكر بن الطيب. قال: إن المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء. وقال إمام الحرمين: المرضي عندنا تجويز خوارق العادات في معارض الكرامات. وذكر الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى كرامات الأولياء فقال: ذلك مما لا يستحيل في نفسه لأنه ممكن لا يؤدي إلى محال. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: أما كرامات الأولياء فجائزة عقلا وواردة سمعا ومن أعظم كرامات الله تيسير أسباب الخير وإجراؤه على أيديهم وتعسير أسباب الشر عليهم، وحيثما كان التيسير أكثر كانت الكرامات أوفر. وما ينقل عن صالحي هذه الأمة أكثر من أن يحصى، وهي بآحادها إن لم تفدنا علما بوقوعها فهي بمجموعها، أفادتنا علما قطعيا ويقينا صادقا بأن خوارق العادات تظهر على أيدي أصحاب الكرامات.

واعلم أن كل كرامة تظهر على يد ولي فهي بعينها معجزة النبي إذا كان الولي في معاملاته تابعا لذلك النبي، فكل ما يظهر في حقه فهو دليل على صدق صاحب شريعته. فلا تكون الكرامات قادحة في المعجزات بل هي مؤدية لها، دالة عليها، راجعة عنها، عائدة إليها”[30].

بالإضافة إلى ما تقدم، يستفاد من النص كذلك الحرص على لزوم الأصل الشرعي في الاعتقاد، لا فرق في ذلك بين رجل عقيدة أو رجل تصوف. فالتصوف كالفقه والاعتقاد منضبط بأصول الشرع وقواعده لا يخرج ولا يشذ عنها شيء. فتجد النص في مختلف التعريفات حريصا على ربط كرامة الولي بمعجزة النبي فهي أصلها، وإنما تحصل للولي بحسن الاتباع لسنة النبي. وحتى إن ضعفت بعض الروايات في هذا السياق فإنه يسلك في تقويتها مسلك علماء الحديث في جبر وتقوية الروايات بعضها لبعض من مختلف الطرق، فنجد النص كذلك حريصا على إيراد هذا المنهج الذي هو الاعتماد على المشهور والمتعاضد من الروايات إن لم تسعف في ذلك الآحاد الضعيفة.

ويتجلى ذلك التداخل كذلك في تراجم العلماء بعضهم لبعض، حيث ترجم المتكلمون للصوفية وترجم هؤلاء للمتكلمين، ومعظمهم في الحالتين معا فقهاء؛ فلم تكن هنالك حدود ضيقة وفاصلة بين فهم وتفسير هذا القطر للثوابت، بقدر ما كانت هنالك سعة ومرونة تسمح بهذا التواصل والتداخل الكبير.

فابن الزيات الذي رصد كتابه “التشوف” للترجمة لرجال التصوف، يترجم لفقهاء ومتكلمين، جمعوا إلى الفقه الكلام والتصوف. يقول مترجما لأبي عمران الفاسي الفقيه المالكي الكبير: “أصله من مدينة فاس ونزل القيروان فاخذ عن أبي الحسن القابسي ثم رحل إلى بغداد فحضر مجلس القاضي أبي بكر بن الطيب ثم عاد إلى القيروان وبها مات لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاثين وأربعمائة، وكان مقدما في الفضل والإمامة”.[31] ففي هذا النقل القصير من الترجمة نلحظ بالإضافة إلى التنويه بإمامة أبي عمران، الإشارة إلى شيخين من شيوخه كل منهما مبرز في علم؛ أحدهما الإمام القابسي المالكي الكبير وشيخ المذهب في عصره، والثاني الإمام الباقلاني الأشعري الكبير ومنظر المذهب في عصره كذلك. ولعل من وجوه إدراجهما في “التشوف” عند التأمل والتوسع في ترجمتهما خارجه، هو أن لكل منهما أحوال من التعبد والزهد والتقرب.

ترجم ابن الزيات كذلك لرجالات العقيدة الأشعرية الكبار في المغرب، ترسيخا لمبدأ السعة في مفهوم التصوف، ولمبدأ الجمع بين الأصول المرجعية الموحدة كما قلنا، عقيدة وفقها وسلوكا. من بين هؤلاء أبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير. قال عنه: “وكان آخر أئمة المغرب فيما أخذه عن أبي بكر بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي من علوم الاعتقادات، وكان مختصا به (…). فلما توجه أبو بكر بن عمر ] اللمتوني من مؤسسي دولة المرابطين[ إلى الصحراء، حمله وولاه القضاء فمات بأزكي من صحراء المغرب سنة تسع وثمانين وأربعمائة، فخلفه أبو الحجاج في علوم الاعتقادات وغلب عليه الزهد في الدنيا وأهلها، وكان لباسه الخشن من الصوف وكان يختلف من مراكش إلى أغمات”[32].

وترجم كذلك لأبي عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي، قال: “إمام أهل المغرب في علم الاعتقاد، قدم بمراكش واستوطن مدينة فاس، ومات في شهر جمادى الثانية عام أربعة وستين وخمسمائة. حدثني أحمد بن عيسى الأنصاري سمعت أبا عمرو يقول: كنت أقرأ مختصر ابن أبي زيد على أبي عبد الله محمد بن عيسى التادلي (*) فسلمت عليه ذات يوم فلم يرد علي السلام، فسألته عن ذلك فقال لي: إنك لا تقصد وجه الله تعالى بالعلم فلذلك لا ينبغي أن يرد عليك السلام. فانصرفت عنه مهموما. فلقيت فتى من أصحابي فبت عنده وكان الفتى بطالا وأبوه من طلبة العلم. فجعلت أنظر في كتبه، فوقع بيدي من علوم الاعتقاد، التقريب والإرشاد. فأعجباني وقال لي صاحبهما: هذا الإرشاد هو المدخل إلى هذا العلم. ثم حملته إلى ابن حرزهم وابن الرمامة واستشرتهما في قراءته فاستحسناه وأشارا علي بالنظر فيه، فقلت لابن حرزهم: أتأذن لي في قراءته عليك؟ فقال لي لا أجيده، فإن قنعت مني بتعلم ما أعلمه فانظره، فأخذته عليه”[33].

غرضنا من نقل الترجمتين الإشارة إلى أمور مهمة منها:

جمع العلماء بين العقيدة الأشعرية والتصوف السني دون أن يشكل ذلك حرجا أو تناقضا داخليا ما دامت الأصول المؤطرة واحدة، وكذلك تداول العقيدة الأشعرية منذ هذا الوقت المبكر في أوساط علمية صوفية، كما هو الشأن بالنسبة ليوسف بن موسى الضرير وشيخه الحضرمي المرادي، وكذلك للإمام السلالجي وأخذه “الإرشاد” للإمام الجويني على ابن حرزهم عالم وقته في هذا الفن كذلك على تورعه في التصريح بذلك.

ونجد ابن عساكر يترجم لعدد من الصوفية في كتابه “تبيين كذب المفتري”، منهم أبو الحسن الباهلي؛ شيخ الباقلاني وابن فورك، كان يتخذ حجابا بينه وبين تلامذته خشية أن ينقلوا إليه ما يرون من الأسواق ومن مخالطتهم لأهل الغفلة. ومنهم: عبد الله بن خفيف الشيرازي الصوفي، وأبو علي الدقاق النيسابوري شيخ أبي القاسم القشيري، وأبو ذر الهروي، وأبو القاسم القشيري النيسابوري…، وغيرهم ممن ذكر لهم أحوالا ومقامات لم تمنعهم من أن يكونوا نُظارا في مسائل العقيدة يحاجون عنها بالأدلة والبراهين العقلية.

         نختم بالحديث عن ثابت الإمامة الذي به يحفظ الدين وتساس الدنيا، حيث تم تناول هذا الثابت هنا، على غرار الثوابت الأخرى، بنفس منطق الاعتدال والتوازن المقرر في روح التشريع، وبمراعاة المصلحة العامة في الأمة من حيث حفظ أمنها ونظامها واستقرارها، بالدفاع عنها ورسم حدودها وإقامة العدل وحفظ الحقوق… وغير ذلك مما هو منوط بالإمام حصرا، وذلك حسما لآفات التنازع والصراع والفتنة التي تنشأ حينما يتصدى لذلك أفراد أو جماعات لم ينط بها الشارع هذا التكليف. حيث نص الأشاعرة، مشرقا ومغربا، على وجوب نصب الإمام، وقيام هذا النصب على بيعة شرعية، وعدم الخروج عن الإمام؛ فضلا عن كونها شاملة لقضايا الدين والدنيا، مما ينأى بها عن مفهوم الدولة الدينية المطلقة، أو الحاكمة باسم الله في كل شيء دون أن يكون لها حظ من الاجتهاد؛ وعن مفهوم الدولة المدنية العلمانية التي لا اعتبار عاما فيها للدين الذي تم حشره في زاوية الشأن الشخصي.

ولهذا قيل في تعريفها: “أنها مختصة بـ “إقامة قوانين الشرع، وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة”[34]؛ وأنها “موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”[35]؛ و”حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”[36]؛ فهي “رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا”.[37] وقيل: “الدين أس [أساس]، والسلطان حارس، والدين والسلطان توأمان”.[38]

ففي منصب الإمامة وحده يجتمع التدبير السياسي الديني والدنيوي، ثم تتمايز المؤسسات المنوط بها خدمة مصالح الناس المختلفة. وبهذا يدرأ هذا النموذج آفات “الدولة الدينية”، في تسلطها باسم الدين، وعدم اعتبارها لروح العصر والاجتهاد الضروري له؛ وآفات “الدولة اللادينية” في تسلطها باسم الدنيا، وعدم اعتبارها لروح الدين وقيمه الضرورية للحياة. ولهذا كان أمر وجوب الإمامة شرعا وعقلا، وذلك لانتفاء التعارض بينهما ولتقريرهما أمرا مصلحته ظاهرة ومفاسده لا حصر لها عند انتفائه.

فـــ “لا يرتاب من معه مسكة من عقل، أن الذب عن الحوزة، والنضال دون حفظ البيضة، محتوم شرعا؛ ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء وتفرق الأهواء؛ لانتثر النظام وهلك العظام، وتوثب الطّغام والعوام، وتحزبت الآراء المتناقضة، وتفرقت الإرادات المتعارضة، (…) وفشت الخصومات واستحوذ على أهل الدين ذوو العرامات، وتبددت الجماعات”.[39]  والدليل على وجوبها أيضا “أن الله سبحانه خاطب الأمة بإقامة حدود لا يصح قيام كل واحد بها، ولا اجتماعهم من أقطارهم عليها؛ فوجب عليهم استخلاف من يقوم بها. ولذلك أجمع الصحابة على وجوب الإمامة ونصبوا الحرب على الخارجين عنها”[40].

و”إذ تقرر أن هذا النصب [نصب الإمام]، واجب بإجماع، فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل الحل والعقد، فيتعين عليهم نصبه. ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ (سورة النساء، الآية 95)[41]. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني”[42].

وهي واجبة بالعقل “لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجا مضاعين”.[43]

وفي النموذج المغربي المتفرد في حفاظه على هذا الإرث، منذ نشأة دولته الأولى على العهد الإدريسي ثم المرابطي ثم الموحدي، إلى العهد العلوي الشريف؛ قامت إمارة المومنين على البيعة الشرعية لتنفيذ مقتضى العقد الاجتماعي المتجدد، الذي يربط بين الراعي والرعية، لإقامة مظاهر الشريعة، وتثبيت الأمن بجميع مستوياته، خصوصا الأمن الروحي الذي هو أعظم مهام إمارة المؤمنين. وذلك بصون اختيارات المغاربة الدينية التي ترسمت منذ تلك العهود، وأضحت قوام الهوية والخصوصية الدينية المغربية في توسطها واعتدالها، وفي مرونتها وسماحتها، وفي رعايتها للمصالح والتطور.[44]

لائحة المصادر والمراجع

  • ابن خلدون: المقدمة، تح: عبد الواحد الوافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م.
  • ابن رشد: فتاوى، تح المختار بن الطاهر التليلي، دار الغرب الإسلامي، ط1/ 1407ه- 1987م.
  • ابن الزيات التادلي: التشوف إلى رجال التصوف، تح أحمد التوفيق، مطبعة النجاح الجديدة، ط2/1997م.
  • ابن السبكي: طبقات الشافعية، تح أحمد عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/1420ه-1999م.
  • ابن عجيبة: معراج التشوف إلى حقائق التصوف، تح عبد الحميد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي البيضاء.
  • ابن العربي المعافري: سراج المريدين في سبيل الدين، تح عبد الله التوراتي، دار الحديث الكتانية، ط1/ 1438ه-2017م.
  • ابن عساكر: تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، تح أحمد حجازي السقا، دار الجيل بيروت، ط1/ 1416ه-1995م.
  • الإيجي: المواقف، بشرح الشريف الجرجاني، تح عبد الرحمن عميرة، دار الجيل بيروت، ط1/1417ه- 1997م.
  • الآمدي: أبكار الأفكار، تح أحمد محمد المهدي، مطبعة طار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، ط 2/ 1424هـ-2004م.
  • البخاري: الجامع الصحيح.
  • البختي، جمال علال: انتشار الأشعرية على عهد الدولة المرابطية، عمل جماعي، الرابطة المحمدية للعلماء ومركز أبي الحسن الأشعري، ط1/2021م.
  • الجويني: الغياثي، غيات الأمم في التياث الظلم، تح عبد العظيم الديب، دار المنهاج، ط 4/ 1435ه-2014م.
  • زروق: قواعد التصوف، مكتبة الثقافة الدينية، ط2/ 1435ه-2014م.
  • علال الفاسي: التصوف الإسلامي في المغرب العربي، إعداد عبد الرحمن الحريشي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط2/ 1435ه-2014م.
  • القاضي عياض: ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق مشترك، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
  • القاضي عياض: الغنية، فهرست شيوخ القاضي عياض. تح ماهر زهير جرار، دار الغرب الإسلامي، ط1/ 1402ه- 1983م.
  • القشيري: الرسالة، تح نجاح عوض، دار المقطم، ط1/ 1430ه- 2009م.
  • الماوردي: الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت.
  • المرادي: عقيدة أبي بكر المرادي الحضرمي، تح جمال علال البختي، الرابطة المحمدية للعلماء ومركز أبي الحسن الأشعري، دار الأمان للنشر، ط1/ 1432ه- 2012م.
  • ميارة الفاسي: رسالة في الإمامة العظمى في أحكام البيعة والتحذير من الخروج. تح عبد الرحيم العلمي، دار الحديث الكتانية، ط1/ 1436ه-2015م.
  • اليوسي: القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، تح حميد حماني اليوسي، مطبعة فضالة، ط2/ 2013م.

 


[1] ـ تاج الدين بن السبكي: طبقات الشافعية، تح أحمد عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/1420ه-1999م، ج2، ص264.

 [2]ـ لقد ساد هنالك تقليد تصدير الكتب والرسائل الفقهية بمقدمات عقدية، كما فعل ابن أبي زيد القيرواني وابن عاشر المغربي وغيرهما؛ ومن دلالات هذا الصنيع أن الأحكام الفقهية العملية مؤطرة بخلفيتها الإيمانية الاعتقادية، وأن الفقه (العمل) والعقيدة (الإيمان) أمران متلازمان وإن لم يكن العمل شطرا ولا شرطا في صحة الإيمان، بل شرط في كماله.

[3]– القاضي عياض: ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تح سعيد أعراب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ج6/ ص 196. وانظر فيه نصوص الرسائل المتبادلة بينهما ثناء وتقديرا. (ترجمة أبي عبد الله بن مجاهد المتكلم 241).

[4]– ابن عساكر: تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، تح أحمد حجازي السقا، دار الجيل بيروت، ط1/ 1416ه-1995م، ص 124.

[5] – نفسه. وأيضا: ابن السبكي، م س، ج2/ ص265.

[6] – القاضي عياض: م س، ج7/ ص 46-47، وانظر فيه ترجمة الباقلاني وذكر فضله وسيرته ومناظراته.

[7] – نفسه. ج7/ ص246. ترجمة أبي عمران الفاسي.

[8]فتاوى ابن رشد، تح المختار بن الطاهر التليلي، دار الغرب الإسلامي، ط1/ 1407ـ 1987م، ج1/ ص802ـ 805، (م 189).

[9] – ابن الزيات التادلي: التشوف إلى رجال التصوف، تح أحمد التوفيق، مطبعة النجاح الجديدة، ط2/ 1997، ص 106.

[10] – القاضي عياض: الغنية، فهرست شيوخ القاضي عياض. تح ماهر زهير جرار، دار الغرب الإسلامي، ط1/ 1402 ـ1983، ص226. وانظر المرادي: كتاب الإشارة إلى أدب الإمارة. مقدمة المحقق رضوان السيد، حيث ذكر أسبابا لعدم اشتهار المرادي بهذا الأمر وإهمال الفقهاء له لعدم ضلوعه في الفقه والحديث والقراءات ولاهتمامه بالكلام. وانظر كذلك مقدمة جمال علال البختي في تحقيقه لعقيدة المرادي.

[11]. القاضي عياض: م س، تح محمد بن شريفة، ج5/ ص24.

[12] ـ نفسه، ج5/ ص 25ـ 26.

[13] ـ ابن السبكي، م س، ج2/ ص 265.

[14] ـ انظر بهذا الصدد، علال الفاسي: التصوف الإسلامي في المغرب العربي، إعداد عبد الرحمن الحريشي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط2/ 1435هـ-2014م، ص 22-23. وأيضا، جمال علال البختي: انتشار الأشعرية على عهد الدولة المرابطية، عمل جماعي، الرابطة المحمدية للعلماء ومركز أبي الحسن الأشعري، ط1/2021م، ص 38-39.

[15]ـ تجدر الإشارة هنا إلى أن المقصود الرد على من يزعم أن وسطية المدرسة الأشعرية هي منحى توفيقي أو تلفيقي بين مقولات المتكلمين؛ وخصوصا في التأويل والتفويض، والنفي والإثبات، والجبر والاختيار، وقدم الكلام وحدوثه… في حين أن القول الأشعري في هذه القضايا مبني على النصوص ومستمد منها، ويعكس الاعتدال والتوسط المقرر فيها باعتباره منهجا عاما في الإسلام.

[16] – ابن عساكر: م س، ص27.

[17] – انظر القشيري: الرسالة، تح نجاح عوض، دار المقطم، ط1/ 1430هـ-2009م، ترجمة الجنيد (رقم 23)، ص 71-70؛ وانظر أيضا: رسائل الإمام الجنيد.

[18] – ابن عساكر، م س، ص 119. وأيضا: ابن السبكي، م س، ج2/ ص 214.

[19]  -ابن السبكي، م س، ج3/ ص 164.

[20] -ابن عجيبة: معراج التشوف إلى حقائق التصوف، تح عبد الحميد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي البيضاء، ص25.

[21] – الشيخ زروق: قواعد التصوف، مكتبة الثقافة الدينية، ط2/ 1435ه-2014م، ص9.

[22] – نفسه، ص9.

[23] – نفسه، ص17، ص 23.

[24] – الحسن اليوسي: القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، تح حميد حماني اليوسي، مطبعة فضالة، ط2/ 2013م. ص 185.

[25]–  نفسه، ص 187-188.

[26] – علال الفاسي، م س، ص 26.

[27] -نفسه، ص 22.

 

[28] ابن العربي المعافري: سراج المريدين في سبيل الدين، تح عبد الله التوراتي، دار الحديث الكتانية، ط1/ 1438م -2017م، ص 11، وهو طبعا ما تيسر له في كتابه هذا.

[29] – القشيري، م س، ص 32.

[30] – نفسه، ص 54-55.

[31] – ابن الزيات التادلي: التشوف، ص 87.

[32] – نفسه، ص 106.

(*) – المختصر هو “مختصر مدونه سحنون لابن أبي زيد القيرواني في الفقه”. ومحمد بن عيسى التادلي، من حفاظ المذهب المالكي. كان مشاورا بفاس أيام المرابطين. التشوف، هامش ص 198، (المحقق).

[33] – نفسه، ص 198-199.

[34] – الآمدي: أبكار الأفكار، تح أحمد محمد المهدي، مطبعة طار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، ط 2/ 1424ه-2004م، ج5/ ص121.

[35] – الماوردي: الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، ص5.

[36] – ابن خلدون: المقدمة، تح: عبد الواحد الوافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006م، ج2/563.

[37] – الجويني: الغياثي، غيات الأمم في التياث الظلم، تح عبد العظيم الديب، دار المنهاج، ط 4/ 1435ه-2014م، ص 217.

[38] – الإيجي: المواقف، بشرح الشريف الجرجاني، تح عبد الرحمن عميرة، دار الجيل بيروت، ط1/1417ه-1997م. ج3/ ص 398.

[39]  – الجويني: الغياثي، ص 218.

[40] – عقيدة أبي بكر المرادي الحضرمي، تح جمال علال البختي، الرابطة المحمدية للعلماء ومركز أبي الحسن الأشعري، دار الأمان للنشر، ط1/ 1432ه- 2012م، ص 341.

[41] – ابن خلدون: المقدمة، ج2/ ص 567.

[42]صحيح الإمام البخاري: كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾، رقم: 6718.

[43] – الماوردي: الأحكام السلطانية، ص5.

[44] – انظر نموذجا عن كتابات الفقهاء المالكية بهذا الصدد، ميارة الفاسي: رسالة في الإمامة العظمى في أحكام البيعة والتحذير من الخروج. تح عبد الرحيم العلمي، دار الحديث الكتانية. ط1/ 1436هـ-2015م. حيث تحدث عن “الأدلة في طاعة ولي الأمر والوفاء بالبيعة والنهي عن الغدر”، وعن “أقوال المالكية في طاعة الأمير وإن لم يتبين عدله”، وعن “الأدلة فيما يجب على الإمام”، ومناقشته للمخالفين من الشيعة والمعتزلة والخوارج… وغير ذلك.