بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى الذي رسم للمؤمنين المنهاج ليقتفى وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن أصالة كل أمة تقاس بمدى الحفاظ على موروثها الذي يشكل جوهر هويتها الحضارية. ولا شك أن الأمة الإسلامية غنية زاخرة بمكونات تشكل أساسها الذي تستلهم منه سبل البقاء، وتجعله المرشد الموجه للارتقاء.
من ذلك ما جرى عليه جموع المسلمين من جميل الاحتفاء بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ هذا الاحتفاء الذي يعتبر -في نظري- رابطة وصل بين ماضي الأمة وحاضرها.
لذلك وجب الوقوف على دلالات الاحتفاء بالمولد النبوي؛ للتنبيه والتذكير بما يمكن أن يغفل عنه الكثير، من ذلك مثلا:
يتفق الموالف والمخالف على شرف نسب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واتصاله بسيدنا إسماعيل عليه السلام.
لقد نبه القرآن الكريم في آياته الخالدة العظام على هذا المعنى؛ من ذلك قول الحق سبحانه موجها نبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)[1].
والقول ببشريته صلى الله عليه وسلم ليس تنقيصا من جنابه الشريف، بقدر ما فيه من التنبيه على عدم الغلو فيه إلى حد التأليه، وإلا فإنه يجب على عموم المسلمين احترامه وتوقيره، ومحبته وتقديره؛ لأن قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ) (الكهف:110) و(فصلت:6)، فيه بيان شاف تام على أنه ليس كسائر البشر؛ فلا يمكن الوقوف عند (مثلكم)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه.
إن الاحتفاء بهذه الذكرى الغالية فرصة متجددة بتجدد الأعوام، للتنبيه على وجوب صيانة مقام نبوته صلى الله عليه وسلم؛ خاصة أن هذا الأمر مما كان يُنَبَّه عليه الصحابة الكرام الذين تربوا في المدرسة المحمدية من لدن الله سبحانه تعالى، ففي القرآن نهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي، قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)[2].
ومن صيانة هذا المقام النبوي الكريم تحكيم أمره واجتناب نهيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا واضح في قوله تعالى:(وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[3].
إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع، مما يجعله القدوة الصالحة لكل إنسان.
ولا شك أن الأمة الإسلامية تعتز بشخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ هذه الشخصية التي وصفها الله تعالى بــ “الأسوة الحسنة” في قوله سبحانه وتعالى: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)[4].
ومن ثمرات الاقتداء الحسن بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، امتلاك الحكمة والنطق بها، واجتناب البدعة وضلالتها؛ قال أبو عثمان الحيري:” من أمَّرَ السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة”[5].
إن أَمْرَ التعلم والتعليم عظيم في شريعة الإسلام، التي جاءت بواضح الأدلة وقوي البرهان؛ حتى تقيم الحجة على بني الإنسان. لهذا كان التعليم من أعظم المهام التي أنيطت برسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا واضح في قوله عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام: “إن الله لم يبعثني مُعنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا”[6].
وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على تعليم صحابته الكرام، والتدرج معهم في ذلك حتى تَسهل عليهم الأمور وتستوعبها الفهوم؛ مستعملا الحال قبل المقال.
إن رحمته صلى الله عليه وسلم شهد بها الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه الحكيم، من ذلك مثلا: قول الحق سبحانه وتعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[7]. وقوله عز وجل:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم)[8].
كتاب الله سبحانه وتعالى يخلد لنا هذه الخاصية التي امتازت بها بعثته صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[9]، وفي قوله سبحانه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)[10]. وفي الحديث النبوي الشريف قوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام:”… وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة”[11].
ذلك أن الله تعالى مدح نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله في محكم التنزيل:(وإنك لعلى خلق عظيم)[12]، كما أجمل عليه الصلاة والسلام رسالته في قوله:” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”؛ وقد استصحب عليه الصلاة والسلام هذا الأصل في أقواله وأفعاله وإقراراته، كيف لا وهو الذي يستمد توجيهاته من الوحي الإلهي.
وقد تفطن غير واحد من علماء المسلمين إلى هذا الجانب الأساس في الشريعة الإسلامية؛ يأتي على رأسهم الإمام الشاطبي رحمه الله حيث قال: “الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق”[13].
وبيان ذلك حسب الإمام الشاطبي، “أنّ الْعَرَبَ كَانَ لَهَا اعْتِنَاءٌ بِعُلُومٍ ذَكَرَهَا النَّاسُ، وَكَانَ لِعُقَلَائِهِمِ اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فَصَحَّحَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَزَادَتْ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلَتْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَبَيَّنَتْ مَنَافِعَ مَا يَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَارَّ مَا يَضُرُّ منه”[14].
فذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ترسخ فينا خلق السماحة من خلال استحضار مواقف نبوية جليلة تبرز مدى سماحته صلى الله عليه وسلم وعفوه وصفحه؛ سواء مع المخالف أو مع الموافق، مع العدو أو مع الصديق.
إن تجديد الإيمان بنبوته في نفوسنا من أوجب الواجبات الدينية التي ينبغي على مسلم هذا الزمان التفطن إليها وإقامتها؛ ومن أهم الأمور التي تعبر عن عملية التجديد هذه نجد:
وفي الختام يمكن القول، إن هذه الذكرى المباركة فاتحة خير على كل مسلم؛ يجدد من خلالها نيته، ويصفي سريرته، ويتخلى عن علائق النفس الأمارة بالسوء، ويتحلى بأخلاق قدوته المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
[1] – سورة الإسراء، الآية:93.
[2] – سورة الحجرات، الآية:2.
[3] – سورة الحشر، الآية:7.
[4] – سورة الأحزاب، الآية :21.
[5] – الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ص: 488
[6] – صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية.
[7] – سورة الأنبياء، الآية:106.
[8] – سورة التوبة، الآية:129.
[9] – سورة الأنبياء، الآية:106.
[10] – سورة سبأ، الآية:28.
[11]- صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب: الصلاة على النفساء وسنتها.
[12] – سورة القلم، الآية:4.
[14]– المصدر نفسه، 2/212.