بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
وبعد؛ فلقد جاء الإسلام آخر الرسالات السماوية لتنظيم حياة الناس وهدايتهم إلى طريق السعادة الدنيوية والأخروية. وقد تضمن هذا الدين الحنيف جميع التعاليم التي يحتاج إليها الإنسان من عقائد وعبادات وقيم تصلح بها حياة الفرد والمجتمع. يقول تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[1]. فربى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام على هذه العقيدة وهذه القيم فاهتدوا وهدوا، وكانوا خير جيل نشروا الإسلام وتعاليمه في فترة قياسية. وظهر أثر الإسلام في جميع نواحي الحياة: الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام نماذج في الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة. والإنسان بصفته مدنيا بالطبع يحتاج إلى غيره في كثير من الأمور لتتحقق سعادته، وهذه السعادة تكمن أحيانا في الوحدة، والوحدة ضرورة حضارية طرحها الإسلام منذ قرون عديدة من الزمن، فبها يتأسس ويتطور المجتمع. والمذاهب الفكرية، والمعتقدات، والطرق الصوفية بحكم كونها مرجعية دينية تهدف إلى تهذيب النفوس لإقامة مجتمع سعيد، لها دور في إيجاد ظروف تهيئ الوصول إلى جو يسوده التقدم والنمو.
واعتمادا على كل هذا سأحاول في هذا البحث تسليط الضوء على الموضوع: “أثر المشترك المذهبي والعقدي في الوحدة الإفريقية” وفق النقاط الآتية:
أولا: أهمية الوحدة.
ثانيا: لماذا الحاجة إلى وحدة إفريقيا؟
ثالثا: خصائص المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية.
رابعا: دور التصوف في تعزيز مبادئ الوحدة في إفريقيا.
خامسا: أثر المشترك العقدي والمذهبي في الوحدة الإفريقية.
الوحدة مطلب ديني، يدعو إليه الإسلام، ويحث عليه القرآن الكريم في أماكن عدة، يقول الله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾[2]. ويقول عليه الصلاة والسلام: «يد الله مع الجماعة»[3]. كما يقول: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن»[4]. وهذا دليل على أن الوحدة أمر رباني قبل أن يكون مطلبا إنسانيا لتحقيق المصالح الدنيوية. فالرحمة وعاء حوى كل الخيرات، ورسول الإسلام أرسل رحمة للعالمين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[5]، وقد قرنت هذه الرحمة بالجماعة.
ظلت إفريقيا حتى منتصف القرن العشرين، مسرحاً للتنافس الاستعماري لعدد من الدول الأوروبية، التي سيطرت عليها واستغلت مواردها المختلفة، وشهد بداية عقد الستينات استقلال بعض الدول، ثم ازداد هذا العدد إلى أن استقلت جميع دول إفريقيا، إلا ان هذا الاستقلال بقي شكليا في بعض الأحيان، حيث إن المستعمرين خرجوا من الباب ورجعوا عبر النافذة، حيث إن الاستعمار الاقتصادي لا زال موجودا في كثير من الدول. والقارة الإفريقية بعد مرورها بمراحل عديدة شهدت خلالها التفرقة، والحروب الأهلية والصراعات الدموية والاستعمار الأجنبي وما خلفه من آثار سلبية، ولذلك فهي في حاجة اليوم إلى الوحدة والتجمع في ظل كيان واحد يحقق لها القدرة التفاوضية والندية أمام التكتلات الأخرى في الوقت الذ لم يعد هناك مكان للكيانات القزمية. ولعل الاتحاد الإفريقي هو الطريق السالك إلى تحقيق هذا المطلب المنشود، حيث إن قيامه يعتبر صدور شهادة ميلاد لتأسيس عصر إفريقي جديد، بعد عقود من الزمن يناضل فيها الأفارقة من أجل تحقيق هذا الحلم. إلا أنه تعددت محاولات التجمع والوحدة بين هذه الدول، حتى ظهرت منظمة الوحدة الإفريقية كمنظمة إقليمية تسعى لإخراج القارة من وطأة الهيمنة والاستغلال[6].
وهناك جوانب متعددة يمكن الاعتماد عليها لتجسيد هذا الحلم، ومنها الجانب العقدي الذي يمكن اعتماده قاسما مشتركا بين كثير من بلدان القارة. ويتمثل هذا الجانب المهم في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني.
المذهب المالكي[7] هو المذهب الذي اختاره معظم مسلمي إفريقيا– أو على الأقل غرب إفريقيا- فجمع شملهم ووحد كلمتهم وعصمهم من التفرق والاختلاف. وذلك بسبب توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط، وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة. كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ولم يخصه بباب من أبواب الفقه ولا نوع من أنواع الحكم. بينما نجد كثيرا من الفقهاء يردون بعض أنواع القياس ويضيقون مجالات المقبول عندهم. فلا يقبلون القياس على ما ثبت بالقياس ولا القياس المركب والقياس على مخصوص وقياس العكس. ولا يجيزون القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات والأسباب والشروط والموانع. فقد نحا الإمام مالك منحى فقهاء أهل المدينة في الأصول التي بنى عليها اجتهاده، واتخذت بعده أساسا لمذهبه.
وللمذهب المالكي خصوصيات جعلته متميزا عن بقية مذاهب أهل السنة ولعل أهمها:
يمتاز المذهب المالكي على مستوى أصول الفقه بعدة مزايا وخصوصيات أهمها:
أولا: وفرة مصادره وكثرة أصوله المتمثلة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة وعمل أهل المدينة والقياس والاستحسان والاستقراء وقول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وعمل أهل المدينة والأخذ بالأحوط ومراعاة الخلاف. بالإضافة إلى القواعد العامة المتفرعة عنها والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف ومائتي قاعدة تغطي جميع أبواب الفقه ومجالاته[8].
هذه الكثرة أغنت الفقه المالكي وأعطته قوة وحيوية ووضعت بين أيدي علمائه من وسائل الاجتهاد وأدوات الاستنباط ما يؤهلهم لبلوغ درجة الاجتهاد ويمكنهم من ممارسته ويسهل عليهم مهمته. وإذا كانت بعض المذاهب شاركت المذهب المالكي في بعض هذه الأصول فإن ميزة الفقه المالكي تكمن في الأخذ بجميع هذه الأصول بينما غيره لم يأخذ إلا ببعضها ورد الباقي.
ثانيا: تنوع هذه الأصول والمصادر، ذلك أنها تتراوح بين النقل الثابت والرأي الصحيح المستمد من الشرع والمستند إليه كالقياس. هذا التنوع في الأصول والمصادر والمزاوجة بين العقل والنقل والأثر والنظر وعدم الجمود على النقل أو الانسياق وراء العقل هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن مدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي، بيسره ووسطيته وانتشاره والإقبال الشديد عليه وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.
ثالثا: توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط، وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة وتنبيه الخطاب، كما يقبل دلالة السياق ودلالة الاقتران والدلالة التبعية، وقد استدل بقوله تعالى: ﴿والخيل والبغال والحمير لتركبوها﴾[9] على عدم وجوب الزكاة في الخيل لاقترانها بالحمير التي لا زكاة فيها، كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ولم يخصه بباب من أبواب الفقه ولا نوع من أنواع الحكم. بينما نجد كثيرا من الفقهاء يردون بعض أنواع القياس ويضيقون مجالات المقبول عندهم، فلا يقبلون القياس على ما ثبت بالقياس ولا القياس المركب والقياس على مخصوص وقياس العكس. ولا يجيزون القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات والأسباب والشروط والموانع[10].
أولا: رحابة صدره وانفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية والشرائع السماوية السابقة واعترافه بالجميع واستعداده للتعايش معه والاستفادة منه بفضل قاعدة: “شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ” التي اتخذها مالك أصلا من أصوله التي بنى عليها مالك مذهبه وأسس عليها فقهه، وانطلاقا من إيمانه بحرية الاجتهاد ووجوبه، وأنه لا يقلد مجتهد غيره، وأن المصيب واحد كما يراه مالك وأكثر علماء الأصول[11].
ثانيا: قابليته للتطوير والتجديد، سعة أصوله وكثرة قواعده، فهو قائم على أصول نقلية وعقلية، وأخرى ترجع إلى الأعراف والعادات، أصول وقواعد تتصف –في نسقها العام- بالسعة والمرونة، مما جعلها تضمن لهذا المذهب صلاحية دائمة لاستيعاب التطورات واحتواء المستجدات. فقيام المذهب المالكي على إجماع أهل المدينة وفقههم، وامتزاج ذلك بأصول عقلية في غاية من الدقة والمرونة كاعتماد المصالح المرسلة والاستحسان في الاجتهاد الفقهي، كل ذلك أضفى على المذهب صفة الاعتدال والتوسط، ما بين العقل والنقل، بين الشرع والواقع. لذلك كثيرا ما تجده يتوسط في المسألة بين مذهبين متقابلين مراعاة للمصلحة العامة.
ثالثا: المرونة، في تصحيحه حكم المخالف لمذهب مالك ومنع نقضه وإن خالف المشهور أو الراجح في المذهب المالكي، وهي القاعدة المعروفة بـ”حكم الحاكم يرفع الخلاف” المشار لها بقول خليل: “ورفع الخلاف لا أحل حراما”.
رابعا: السماحة والتيسير في آرائه، كما نراه في استحسانه العمل برأي المخالف ابتداء في بعض مواطن الخلاف من باب الورع والخروج من الخلاف، مثل قراءة البسملة سرا، وقراءة الفاتحة خلف الإمام للخروج من خلاف الشافعي.
خامسا: الوسطية والاعتدال، كما نراه في رفضه تكفير المسلمين بالذنب والهوى فقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ “فقال من الكفر فروا”. وكذلك ما قرره الفقه المالكي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن المختلف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وهي قاعدة من أهم القواعد التي تحقق التعايش بين المذاهب.
واعتمادا على هذا، يرى الباحث أبو مدين شعيب تياو أن العلماء الأفارقة كانوا يفتخرون بانتمائهم إلى المذهب المالكي، مبرهنا ذلك بقوله: «ويقول الشيخ ماجور سيسه Madior cissé [12] في مقدمة كتابٍ له في الفقه “هبة الكريم المالك في أحكام الطهارة والصلاة على مذهب الإمام مالك”: «يقول العبد الفقير إلى ربه… المالكيُّ القادر». ولم يقتصر العلماء على ذلك، بل أوصوا تلامذتهم بذلك، وندبوهم إلى التقيد بالمذهب المالكي، فنرى الشيخ أحمد بامبا[13]– خديم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول لتلاميذه: «فأمرتكم جميعا بالمذهب المالكيّ». وقال: «عليكم بالمالكيّة، فإنها مُطهَّرةٌ مُنَوَّرة»[14]، بالإضافة إلى مراعاتهم ذلك في تواليفهم وفتاوَاهم»[15]، ومدارسهم لا زالت تتميز بهذه الميزة إلى يومنا هذا.
العقيدة الأشعرية
أسهمت الأشعرية رفقة المذهب المالكي والتصوف السني في خلق انسجام مذهبي وعقدي في إفريقيا، خاصة الجانب الغربي منها، جنبها كثيرا من القلاقل والفتن التي كانت تقع في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب الخلافات العقدية.
ونظرا لما امتاز به منهج الأشعري من وسطية واعتدال، وما طبع مناظراته ومؤلفاته من قوة الحجة، فقد وفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وإفحام الخصوم والمعاندين. وقد ظهرت حاجة الأمة إلى أبي الحسن الأشعري من خلال الأسئلة التي تواردت عليه من أقطار العالم فأجاب عنها؛ فطبق ذكره الآفاق. وقد استحق بما كتبه في نصرة السنة أن يسمى إمام أهل السنة، وأن يتفق الجمهور على أنه مجدد المائة الثالثة. وتجرد بعد ذلك أصحابه وأتباع مذهبه في العقيدة من المذاهب الفقهية الأربعة، ينشرون عقيدة أهل السنة والجماعة التي جمع الله عليها السواد الأعظم بعد فرقة وشتات وتمزق[16]. ويتبين مما سبق أن المذهب المالكي المبني على العقيدة الأشعرية[17] وجد في إفريقيا أرضا خصبا وباحة مريحة للنموّ، وألفى بها علماء وفقهاء ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليه ونشره، كما أنهم لم يألوا جهدا في المساهمة فيه بالتأليف والتصنيف نظما ونثرا، فضلا عن إفتاء الناس وفق المذهب، وتأسيس مناراتٍ علمية لتعليم العلوم الشرعية والفقه المالكيّ.
يقول الباحث يوسف بن حيدة: «لعبت الطرق الصوفية دورا اساسيا في نشر الإسلام في أجزاء كبرى من القارة الإفريقية… وكان دور الطرق الصوفية في هذا، مرتبطا بالدعوة والجهاد بفضل نشاط شيوخها الذين استطاعوا ان يلقنوا تلك الشعوب مبادئ الدين الإسلامي، ويرفعوا رايات الإسلام والدعوة المحمدية في المنطقة. وقد تعزز نشاط الطرق الصوفية بشكل كبير في مستهل القرن السادس عشر ميلادي، تزامنا مع قيام قوى التبشير المسيحية، وخاصة البرتغالية، بحركتها التبشيرية»[18].
واتساقا مع ما سبق، نشير إلى أن التصوف السني[19] الذي هو مسلك في التخلق يطهر الباطن ويزين الظاهر ويضبط التصرفات بضابط الإنصاف، هو الذي يهمنا في هذا الموقف، وسنورد بعضا من تعريفاته:
وبهذا نفهم أن التصوف ترجمة لأخلاق القرآن؛ لأن القرآن – كما يرى الدكتور قاسم عزيز الوزاني- «كتاب أخلاق، وتعاليمه في هذا الجانب تشهد على أنه كتاب روحي يسمو فوق كل المذاهب الفلسفية والأخلاقية والدينية»[23].
وبناء على هذا، يمكن القول بأن الطرق الصوفية هي المدارس الروحية التي تتولى إعداد النفوس للترقي بها أخلاقيا. أو بعبارة أخرى هي استمرارية لمهمة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، لإتمام مكارم الأخلاق. وقد تعددت تسمياتها على مر التاريخ وعلى مختلف الأماكن، لكن تبقى مهمتها الأولى هي تهذيب النفوس للوصول إلى سعادة روحية. وقد ثبت أن تاريخ المجتمعات والأديان مليء بسير المصلحين وحركات الإصلاح. وتختلف المناهج المتبعة في الإصلاح وفي تغيير ما في المجتمع من المنكرات ويعود هذا التنوع إلى الاختلاف في الرؤية وفي التشخيص لطبيعة التحديات والمشكلات التي تواجه المجتمع. فهناك من ينطلق من الدين وإصلاح ممارسات الناس له لتغيير ما في المجتمع من أنواع الفساد، معتمدا على التربية، وهناك من ينطلق من السياسة لمحاولة تنظيم المجتمع وتوجيهه بالسلطة والحكم.
إن محاولات الإصلاح الديني في إفريقيا قد تعددت في واقع الأمر، وتنوعت مشارب الدعاة وتوجهاتهم: فمنهم من رأى أن الحل يكمن في إصلاح العقيدة، ومحاربة غيره وصولا إلى تكفير من سواهم، ووجوب حمل السلاح ضده بحجة الدفاع عن راية الإسلام.
ولعل هذا الذي دفع الأستاذ أحمد توفيق إلى القول: «إن الجهاد شرع للدفاع، ولا يعلنه وينهيه إلا الإمام الأعظم، وإن الإرهاب الذي يسمونه جهادا يتناقض مع أهداف الإسلام الكبرى في نشر السلم والتعاون بين الناس»[24]. ومنهم من رآه في إصلاح السياسة وتطبيق الشريعة. ومنهم من ركز على ضرورة تزكية النفوس وتطهير القلوب. وهذا الاختيار هو اختيار المتصوفة في غالبيتهم.
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام في إفريقيا– خاصة الجزء الغربي منها- يتميز بالطابع الصوفي، مما جعل معظم مسلمي إفريقيا ينتمون إلى طرق صوفية، مثل: القادرية، التيجانية، الشاذلية، المريدية، وغيرها من الطرق. وهذه الميزة ساهمت في تقريب المسافات بينهم، وتوحيد الرؤى في كثير من المسائل العقدية، والتي لا يختلف اثنان في أنها ركيزة أساسية في توحيد الصفوف سياسيا واقتصاديا.
وخلاصة ما سبق: إن القارة الإفريقية بعد مرورها بمراحل عديدة شهدت خلالها التفرقة، والحروب الأهلية والصراعات الدموية والاستعمار الأجنبي وما خلفه من آثار سلبية، إنها لفي حاجة اليوم إلى الوحدة والتجمع في ظل كيان واحد يحقق لها القدرة التفاوضية والندية أمام التكتلات الأخرى في الوقت الذي لم يعد هناك مكان للكيانات الدخيلة. ولعل الوحدة الإفريقية هي الطريق إلى هذا المطلب المنشود، حيث إن قيامها يعتبر صدور شهادة ميلاد لتأسيس عصر إفريقي جديد، بعد عقود من الزمن يناضل فيها الأفارقة من أجل تحقيق هذا الحلم[25].
وتعتبر العقيدة من أكثر العوامل تأثيرا على الإنسان، لذا نجد أن الحركات الاستعمارية لما أرادت السيطرة على إفريقيا اتخذت حركات التنصير وسيلة لتحقيق أهدافها حتى صار الاستعمار والتنصير وجهان لعملة واحدة[26]. فحركات التنصير ساهمت بشكل كبير في استعمار القارة الإفريقية[27]… وعليه ينبغي لنا أن نستفيد من دروس التاريخ لنجعل القاسم المشترك بيننا، -والمتمثل في المذهب المالكي والعقيدة الشعرية والتصوف السني- أداة فعالة في إنجاح الوحدة الإفريقية، ذلك لأن الفلاسفة يقولون: «الحكمة هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي». والحكمة اليوم- ونحن في عصر التكتلات، أن نجمع قواتنا، ونلُم شملنا لإثبات وجودنا، في ظل العولمة التي لا تعترف إلا بالأقوياء. خاصة وأنه اتفق الباحثون على أن الإسلام أثر في إفريقيا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. يقول الدكتور الهادي المبروك الدالي: «فمن الناحية السياسية والإدارة والحكم، لا يمكن إنكار ما أفادته بلاد السودان الغربي من احتكاكها بالعرب المسلمين وبالمراكز الثقافية والحضارية، سواء أكان ذلك الاحتكاك بالشمال الإفريقي أو الشرق الإسلامي، وأقوى برهان على ذلك هو ازدهار مملكة مالي الإسلامية وبلوغها شأنا لم تبلغه دولة ما في المنطقة، من التقدم والرقي الحضاري. وما ذلك في الواقع إلا لكونها قد اختارت أسلوب حياة أو حكما إسلاميا فاقت به ما سبقها في حكم المنطقة»[28].
ويرجح البروفيسور روحان امْبَيْ أن اختيار التصوف الجنيدي السني من قبل المغاربة قد امتد إفريقيا إِنْ عَلَى مستوى المدارسة أو الممارسة، ومما هو معلوم أن حلقات التواصل الصوفي انتظمت بين المغرب وإفريقيا في وقت مبكر، حيث تنص المصادر على أن بلاد شنقيط شكلت جسرا لعبور المدارس الصوفية المغربية من المغرب إلى إفريقيا مرورا بالسنغال. ولقد عمل الشيوخ المغاربة على ترسيخ قيم التسامح والتعايش ورفع التحديات والأخطار التي كانت تهدد القارة السمراء. كما ساهموا في تقوية الروابط الروحية والأخلاقية وإشاعة قيم الإسلام المعتدل. كما حَرِصَ المغربُ عَبْرَ التاريخ على مواصلة رعاية المنتسبين إلى الطرق الصوفية بهذه البقاع والعناية بهم وذلك من خلال العمل على الحفاظ والارتقاء بالرابطة الروحية التي تجمع سكان البلدان الإفريقية بمؤسسة إمارة المؤمنين وحماية الملة والدين. هذا الإرث التربوي الروحي الذي ساهم في نشر وترسيخ قيم السلم والتسامح والوسطية والاعتدال لِيَحْصُلَ اليقين والاطمئنان والسكينة والاستقرار في ربوع إفريقيا[29].
والله من وراء القصد.
[1]– سورة الأنعام، آية: 38.
[2] – سورة آل عمران، آية 103.
[3] – سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة.
[4] – سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة.
[5]– سورة الأنبياء، آية 107.
[6]– للتوسع حول مسار الاتحاد الإفريقي ينظر: محمد أمباكي جوف، أزمة النظم السياسية في إفريقيا، من عهد الاستعمار إلى وقتنا الحاضر، أكاديمية الفكر الجماهيري، ليبيا، الطبعة الأولى 2006م، ص 197.
[7]– مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري المدني، ولد في المدينة سنة ثلاث وتسعين على أرجح الأقوال. بدأ رحلته العلمية وهو ابن بضع عشرة سنة، أول شيخ تلقى عنه العلم هو: ربيعة الرأي الفقيه المدني المعروف، ثم لزم ابن هرمز سبع سنين أو ثمان، لم يخلطه بغيره، فأخذ عنه علم الحديث، ثم مال إلى ابن شهاب الزهري، كما أخذ عن نافع، وابن المنكدر، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وسعيد مقبري، وغيرهم كثير ممن أخذ عنهم مالك، حتى قيل إن عدد شيوخه فاق تسعمائة شيخ، منهم ثلاثمائة من التابعين، وستمائة من تابعي التابعين. هو عالم المدينة ومؤسس المذهب المالكي. قال عنه سفيان بن عيينة: «مالك عالم أهل الحجاز». وقال الشافعي: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم».
[8]– ينظر: الدكتور محمد بن محمد بن قاسم التأويل، خصائص المذهب المالكي، مراجعة وتقديم: الدكتور امحمد العمراوي، منشورات البشير بنعطية، فاس، المغرب، الطبعة الأولى 2019م، ص 27- 42.
[9]– سورة النحل، الآية 8.
[10]– ينظر: الدكتور محمد بن محمد بن قاسم التأويل، خصائص المذهب المالكي، ص 27- 42.
[11]– المرجع السابق، ص 54.
[12]– هو عالم سنغالي من مدينة سان لويس، عاش ما بين 1899- 1974م كان فقيها وأديبا، له مؤلفات في الفقه المالكي.
[13]– هو مؤسس الطريقة المريدية التي عاصمتها الروحية مدينة طوبى في السنغال، وهي طريقة صوفية سنية، أسسها على الإيمان والإسلام والإحسان. تعتمد على العلم والعمل والعبادة والآداب الحسنة بمقتضى أحكام التوحيد والفقه والتصوف. وتنتسب الطريقة المريدية إلى أهل السنة والجماعة، وإلى المدرسة المالكية في الفقه بحكم تكوين مؤسسها في منطقة حوض السنغال التي لم يغادرها إلا عندما نفته السلطة الاستعمارية إلى الغابون. وهي طريقة تأخذ بالأوسط في كل الأمور؛ في العبادة والعمل في الدين والدنيا في الفقه والتصوف بعيدة عن الإفراط والتفريط.
[14]– المجموعة المشتملة على أجوبة الشيخ الخديم وفتاويه، ص: 143.
[15]– من إسهام علماء سنغال في خدمة الفقه المالكي، الأعمال الكاملة لمؤتمر الإمام مالك 1435ه / 2013م، الجامعة الأسمرية، زليطن، ليبيا.
[16]– للتوسع في هذا الموضوع، ينظر موقع وزارة الأوقاف المغربية:
http://www.habous.gov.ma/2012-01-26-16-14-32.html
[17]– ينظر: نفس المرجع السابق.
[18]– يوسف بن حيدة، الطرق الصوفية واثرها في نشر الوعي الديني في القارة الإفريقية، المجلة السنغالية للدراسات العربية، جامعة الشيخ أنت جوب، دكار، العدد الرابع، 2016، ص 61.
[19]– بالنسبة للتصوف السني، انظر: أحمد آيت إعزة، إدريس بن الضاوية وآخرون، سيبل العلماء، المجلس العلمي الأعلى، الرباط، الطبعة الأولى، 2016م، ص58.
[20]– الشيخ الدكتور أنور فؤاد أبي خزام، معجم المصطلحات الصوفية، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1993م، ص 60.
[21]– شيخ الإسلام إبراهيم عبد الله نياس، في حقيقة التصوف وأصل تلقين الأذكار، دار الحسام للنشر والتوزيع، ص 14.
[22]– السائح علي حسين، لمحات من التصوف وتاريخه، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الثانية، 1997م، ص30.
[23]– راجع: دكتور قاسم عزيز الوزاني، منهج التربية الخلقية في الإسلام، مجلة الاستذكار، المجلس العلمي المحلي بمكناس، العدد الأول، مايو 2017، ص 141- 148.
[24]– الأستاذ أحمد توفيق، دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، يوم الأحد 2 رمضان 1438.
[25]– للتوسع حول مسار الاتحاد الأفريقي، ينظر: محمد أمبكي جوف، ازمة النظم السياسية في إفريقيا، ص 197.
[26]– ينظر: عبد العزيز الكحلوت، التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1992، طرابلس، ص65- 82.
[27]– بالنسبة لموضوع الاستعمار في إفريقيا، ينظر: محمد أمباكي جوف، أزمة النظم السياسية في إفريقيا، من عهد الاستعمار إلى وقتنا الحاضر، ص 47- 71.
[28]– الهادي المبروك الدالي، الإسلام واللغة العربية في مواجهة التحديات الاستعمارية بغرب إفريقيا، دار صنين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1996، ص 19.
[29]– ينظر: البروفيسور رَوْحَانْ امْبَيْ: الثوابت الدينية المشتركة عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، الرباط، يوم الثلاثاء 06 رمضان 1439/ 22 مايو 2018.